موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٩ مارس / آذار ٢٠٢٠
للإيمان ثمن يتمثل بتوقف المرء عن اعتبار نفسه محور كل شيء وسيد حياته وحياة غيره
تأملات رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسابالا، المدبر الرسولي لبطريركية اللاتين
↲ الأحد الرابع للزمن الأربعيني، السنة أ (يوحنا 9: 1-41)
عمل الله هو المغفرة. أجل، إن الرجل الذي جاء ذكره في الإنجيل لم يلد أعمى بسبب خطيئة ما، ذلك لأن الله لا يتعامل مع خطيئة الإنسان بنية العقاب، بل بنية الشفاء

عمل الله هو المغفرة. أجل، إن الرجل الذي جاء ذكره في الإنجيل لم يلد أعمى بسبب خطيئة ما، ذلك لأن الله لا يتعامل مع خطيئة الإنسان بنية العقاب، بل بنية الشفاء

المطران بييرباتيستا بيتسابالا :

 

تبدأ رواية الرجل الذي وُلد أعمى وتنتهي بإشارة إلى الخطيئة: عند رؤيتهم للرجل الأعمى، يتساءل التلاميذ إن كان سبب عماه هو خطيئة ارتكبها الرجل أم والداه. يجيب يسوع عن هذا التساؤل بانتقاد العقلية السائدة في التفكير ويقول إن العمى ليس عقابًا لخطيئة الرجل أو والديه (يوحنا ٩: ٢-٣).

 

في نهاية المقطع الإنجيلي وفي حديثه مع الفريسيين، يتكرر موضوع الخطيئة مرة أخرى: "لو كنتم عميانا لما كان عليكم خطيئة. ولكنكم تقولون الآن: إننا نبصر فخطيئتكم ثابتة" (يوحنا ٩: ٤١).

 

في النهاية، نستطيع القول إن خطاب الخطيئة قد تغيّر رأسا على عقب، فلم يعد هناك رابط بين الخطيئة والعمى، بل بين الخطيئة والتظاهر بالرؤية.

 

في الواقع، يدور الحديث حول تصلّب قلوب الكتبة والفريسيين وقادة الشعب الذين يمتلكون عيونًا من دون بصيرة. ثمة أمر بديهي أمامهم، يشهد عليه الكثيرون، يتمثل في رجل أعمى استعاد حياته. إلا أنهم يرفضون الرؤية.

 

يحققون عدة مرات مع الرجل المعافى ومع والديه، غير أنهم لا يقومون بذلك بحثا عن الحقيقة بنية قبولها لها، بل بحثا عن وسيلة لنفيها.

 

نعيش الآن في زمن الصوم، والطريق التي تُقدّمها لنا الليتورجيا في هذه الآحاد هي طريق الإيمان.

 

إنه إيمان يسوع الذي يسلم ذاته للآب في لصحراء.

 

إنه إيمان التلاميذ الذين يتعلمون وهم على الجبل رؤية الوجه الحقيقي ليسوع، المسيح المتألم.

 

إنه إيمان المرأة السامرية التي ترى المسيح المنتظر في الرجل الذي يتحدث معها.

 

في جميع هذه المقاطع الإنجيلية نجد عنصرًا مشتركًا يتمثل في الرابط المتين بين الرؤية والسمع، فالذي يسمع فقط هو مَن يرى.

 

يتغلب يسوع على التجربة بإشارته إلى كلمة الله: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (متى ٤: ٤)، ويُدعى التلاميذ على الجبل ليسمعوا إلى الابن الحبيب: "هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت، فله اسمعوا" (متى ١٧: ٥)، والمرأة السامرية تكتشف أن المسيح المنتظر هو مَن يتحدث معها: "أنا هو، أنا الذي يكلمك" (يوحنا ٤: ٢٦).

 

وكذلك اليوم، لا يؤمن الرجل الأعمى إلا عندما يوجّه له يسوع كلمته: "أتؤمن أنت بابن الإنسان؟" أجاب: "ومن هو. يا رب، فأومن به؟" قال له يسوع: "قد رأيته، هو الذي يكلمك". فقال: "آمنت، يا رب" وسجد (يوحنا ٩: ٣٥- ٣٨).

 

أما قادة الشعب، من ناحية أخرى، فهم يتكلمون مع الجميع إلا مع هذا الرجل. إنهم يتكلمون عنه ولكن ليس معه مباشرة.

 

نستطيع القول إن الإيمان هو امتلاك نظرة تلد من السماع. مَن يسمع فقط لنفسه ولأحكامه المسبقة، سيتوقف في مرحلة ما عن الرؤية ويرفض حتى ما هو بديهي. هذه هي الخطيئة ضد الروح القدس التي يتكلم عنها يسوع (متى ١٢: ٣٢): تقوم على رفض رؤية العمل الذي يقوم به الله.

 

عمل الله هو المغفرة. أجل، إن الرجل الذي جاء ذكره في الإنجيل لم يلد أعمى بسبب خطيئة ما، ذلك لأن الله لا يتعامل مع خطيئة الإنسان بنية العقاب، بل بنية الشفاء.

 

إن الذي يدافع عن صورة الله الخاصة به، والتي تقترن بامتيازاته وقوته وثروته وأمنه، لا يستطيع أن يرى إلا ما يؤكد فكره. لطالما كانت هذه هي قصة الإنسان.

 

وعلى سبيل المثال، إن سفر الخروج الذي نقرأه في زمن الصوم، يروي لنا قصة فرعون. هو رجل لا يستطيع أن يرى عمل الله في الإشارات الجلية التي يقوم بها موسى باسمه تعالى. يؤدي هذا الأمر إلى تصلب قلبه. فلو قبل أن يرى لوجب عليه أن يحرر الشعب المستعبد.

 

للإيمان ثمن يتمثل بتوقف المرء عن اعتبار نفسه محور كل شيء وسيد حياته وحياة غيره، في سبيل أن يقبل عمل الله، الذي هو دائمًا عمل تحرير وخلاص.