موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ١٨ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٨
كيف تدرك إيقاع الفصح في وقائع الحياة؟

المطران بيير باتيستا :

في أيام الآحاد الأخيرة من زمن السنة هذه يعود موضوع النظرة مراراً: آخر لقاء ليسوع في طريقه إلى أورشليم هو اللقاء مع بارتيماوس (مرقس 10: 46-52)، الذي يُشفى من عماه؛ يتبع ذلك، يوم الأحد الماضي، حادثة الأرملة، ودعوة يسوع للنظر إلى بادرة هذه المرأة، والنظر إلى الذات؛ وهذا عكس أولئك الذين يبحثون عن نظرة واستحسان الناس (مرقس 12، 38-44).

كما لو أن يسوع أراد، قبل الدخول في أيام الآلام، أن يحثّ تلاميذه أن يتعلّموا النظر إلى الأمور بنظرة جديدة.

يقع المقطع الإنجيلي لهذا اليوم في الفصل الثالث عشر من مرقس (مرقس 13: 24-32)، أي في الحوار الأخروي.

ويبدو أنّ نظرنا الّذي تمّ تدريبه أثناء المسيرة، أصبح الآن ذا قيمة خاصة بالنسبة لنا.

يتحدّث يسوع، في المقام الأوّل، عن قرب وصول أيّام الضيق والمحن والألم. يقول أنّ شيئاً ما، خطيراً جدّاً، ولم يًسمع عنه من قبل سوف يحدث، وأنّ كلّ شيء سوف ينقلب رأساً على عقب.

إنّه لا يتحدّث عن نهاية الأزمنة، بل عن الزمن الحاضر، عن حياة كلّ إنسان: إنّ الأزمنة الأخيرة هي تلك الأيام الّتي كانت بدايتها مع الفصح، ولا سيما مع لحظة الصليب. في الواقع هناك، في الآيات الّتي نقرأها اليوم، العديد من الإشارات للمقطع الّذي يروي موت يسوع. ويمكننا القول أنّ يسوع، في هذا الحوار الأخروي، لا يروي سوى ما سوف يحدث على الصليب، وما بعد الصليب.

أوّل شيء ينبغي رؤيته هو أنّ كلّ شيء سوف يُظلِم (مرقس 13، 24)، الشمس والقمر والنجوم، وسوف يتوقّف كلّ شيء عن إصدار النور، ولهذا سيكون من الصعب رؤيته.

الشمس والقمر والنجوم: نقاط المرجعيّة للسماء، بل هي الشيء الّذي يبدو لنا الأكثر استقراراً وأماناً في الخلق، حتّى هذا سوف يتراجع. وهذا إشارة إلى أنّ عالماً يوشك أن ينتهي، وأنّ الزمن على وشك الإنتهاء أن ينتهي.

عندما سيُرفع يسوع على الصليب، سوف تُظلم الشمس (مرقس 15، 33)، وسوف يُقال أنّ عالماً سوف ينتهي بموته. إنّ الصليب هو، في المقام الأوّل، نهاية شيء ما، وهذا الشيء هو عالم الخطيئة، العالم الّذي الإنسان فيه هو عبد للشر. ومع صليب يسوع ينتهي هذا العالم.

لكن هذا ليس كل شيء. لأنه في الظلمة الدامسة يتمكن أحد ما من رؤية شيء جديد، أن ابن الإنسان قادم ("حينئذ يرون ابن الإنسان آتياً في الغمام بملء القدرة والمجد" – مرقس 13، 26) أنّ الربّ يُقدّم حياته على الصليب.

يمكننا القول أن الصليب هو مثل خط فاصل: أمام مشهد هذا الرجل المصلوب، هناك شخص لا يستطيع أن يرى، ولا يسعه سوى أن يسخر منه ويهينه.

ولكن، إلى جانب ذلك، هناك شخص آخر يرى: وهذا الشخص، في مرقس، هو قائد المئة، وثني، وجندي، ومذنب. شخص بعيد، ولذلك، مع كونه في الظلام يرى أن من يموت مثل هذا الموت، دون أن ينقذ نفسه من أجل أن يُخلّص الآخرين، لا يمكن أن يكون سوى ابن الله (مرقس 15، 38).

ومن الغريب أن التلاميذ ليسوا هم الذين يروا ذلك، بل شخص موجود هناك بالمصادفة. وهذا يقول لنا أن التلميذ هو، في المقام الأوّل، الشخص الذي يحيا من النعمة، الذي يتقبّل الهبة. الّذي يرى ليس لأنّه قد فهم، بل لأنه يتقبّل هبة غير مستحقة على الإطلاق. إن مسيرة التلميذ هي عبارة عن تقبّل نعمة الرؤية بعيون الربّ القائم.

ومن ثمّ يمكننا أن نقول أنّ ما يُشكّل الفرق في أيام الحياة البائسة هو الرؤية. ليس القوة، ولا الوضع الاجتماعي، ولا المال والثروة. لا شيء من هذه يدوم. ولكن إذا تمكّن النظر أن يرى أبعد من ذلك، فإنّه يُدرك أنّ النور يأتي بالتحديد في الظلام. وأنّ الحياة لا تأتي سوى من موت يسوع.

إنّ النظرة المسيحية هي نظرة تعرف كيف تدرك إيقاع الفصح في وقائع الحياة، بنفس ثقة الشخص الّذي ينظر إلى براعم شجرة ما، فيعرف أن الصيف قريب (مرقس 13، 28).

وهو يعرف كيف يبدأ من جديد، بالتحديد، عندما يبدو أن كلّ شيء قد انتهى.

لذلك، فليس الأمر هو مجرد انتظار حدوث شيء جديد، يتم من أجله تأجيل خيارات الحياة إلى لحظة افتراضية أخرى: إنّ كل شيء قد حدث بالفعل، والأمر، في المقام الأوّل، هو إدراكه، ورؤيته بدقة، واختياره. إنها مسألة السماح لأنفسنا بأن نتجمّع من تشتتنا وأوهامنا الخاصة، كي نغمر أنفسنا في الحياة دون خوف.

لقد أكدنا على مركزية النظرة، لكن المقطع الإنجيلي اليوم ينتهي بموضوع الاستماع: عندما يمر كل شيء، فإنه تبقى الكلمة الأبدية والأمينة ("السماء والأرض تزولان، وأمّا كلامي فلا يزول" – مرقس 13، 31). كما لو أننا نقول بأن أولئك الذين يستمعون ويعتمدون على كلمة الله هم وحدهم الذين يمكنهم أن يروا العالم الجديد الّذي يولد حقّاً، وبالتالي ينتظرون الكشف الكامل عن العالم المستقبلي، الذي يستمر الأب في تقديمه للإنسان، ويوحّده دائماً بشكل أوثق مع فصح الربّ يسوع.