موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٧ فبراير / شباط ٢٠١٩
كلمة البطريرك الراعي في مؤتمر كاريتاس: خدمة الخير العام في إطار بيئة تعددية

بيروت – أبونا :

ألقى البطريرك الماروني الكاردينال بشاره بطرس الراعي كلمة عن "خدمة الخير العام في إطار بيئة تعددية"، وذلك في افتتاح مؤتمر المكتب الاقليمي لكاريتاس في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في سيدة الجبل في منطقة كسروان اللبنانية.

وتناول البطريرك الراعي في كلمته موضوع ’خدمة الخير العام في إطار بيئة تعددية‘ في ثلاث نقاط: مفهوم الخير العام، وخدمته في إطار بيئة تعددية، والمسؤولون عن تحقيقه. وقال: "أولا، مفهوم الخير العام في تعليم الكنيسة الإجتماعي، ولاسيما في الرسائل البابوية العامة ذات الطابع الاجتماعي، الخير العام هو "توفير مجموع الشروط الحياتية التي تتيح للجميع، أفرادا وجماعات، تحقيق ذواتهم على أكمل وجه وبأوفر سهولة". ولذا يشمل مختلف النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، مع ما تقتضي من عمل دؤوب في سبيل تحقيقها ونموها وازدهارها. وعندما تتأمن بوفرة، تؤمن معها الحقوق الأساسية لكل مواطن وهي: المأكل، والمسكن، والعمل، والتربية، والصحة، وتحصيل الثقافة، والمواصلات، وحرية تبادل المعلومات، وحماية الحرية الدينية، معتقدا وممارسة".

وأضاف: "ينبع مبدأ الخير العام من طبيعة الإنسان الاجتماعية وكرامته. ولذلك هو "مجموعة الشروط الاجتماعية" الضرورية لتأمين حياة كريمة له ومكتفية وضامنة لحقوقه الحياتية. إنطلاقا من هذا المبدأ تعتبر الكنيسة أن الخير العام يتضمن ثلاثة عناصر أساسية: الأول، احترام الشخص البشري من قبل المجتمع والدولة، بتأمين الشروط لممارسة حرياته الطبيعية. الثاني، تأمين الرفاهية الاجتماعية والتنمية التي توجب على الدولة تأمين الحقوق الأساسية للمواطنين. الثالث، توطيد السلام بإقامة نظام عادل ومستقر. وهذا واجب على السلطة السياسية".

وتابع البطريرك الراعي: "ثانيًا، خدمة الخير العام في إطار بيئة تعددية، خلق الله الانسان كائنا اجتماعيا وهكذا شاءه أن يكون، مذ أوجد الإنسان الأول وكونه جماعة تبدأ خليتها في الزواج والعائلة (راجع تك 24:2). فيشعر الإنسان من طبعه أنه كائن بحاجة إلى إقامة علاقات مع الآخرين. وككائن حر ومسؤول يدرك ضرورة الاندماج والتعاون مع آخرين والدخول في شركة معهم على مستوى المعرفة والصداقة والحب. يشذ عن هذه القاعدة أشخاص مصابون بمرض ما عقلي أو عصبي أو نفساني. كما أنه بسبب الكبرياء والأنانية تظهر في الإنسان بذور سلوك لا إجتماعي، وانغلاق على الذات، وتحقير للآخر. في البيئة التعددية حيث يتعايش أشخاص متنوعو الدين والعرق والثقافة، تقتضي خدمة الخير العام علاقات تضامن وتواصل وتعاون من أجل خدمة الإنسان في هذه الجماعات المتنوعة، وخدمة الخير العام. هذه الجماعات مدعوة لتكوين نسيج موحَد ومتناغم تستطيع فيه كل واحدة منها أن تحافظ على خصوصيتها واستقلاليتها، وفي الوقت عينه تساهم في حياة المجتمع والدولة من أجل توفير الخير العام الذي هو ضمانة خير الأشخاص والجماعات. نحن في لبنان نعيش في وطنٍ تعددي، والتعددية فيه من صلب كيانه وتكوينه. ففيه جميع الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والجماعات البروتستانتية، وفيه الطوائف الإسلامية الأربع: السنية والشيعية والدرزية والعلوية، بحيث يأتي المجموع ثماني عشرة طائفة. لكن ميزة لبنان هي تكوين الوحدة في التعددية بحكم الميثاق الوطني والدستور اللذين ينظمان مشاركة هذه الجماعات المسيحية والإسلامية مناصفة في حكم الدولة وإدارتها".

وتابع: "هذه الخصوصية اللبنانية ميزته عن جميع بلدان الشرق الأوسط ذات الأنظمة الدينية الإسلامية، واليوم دولة إسرائيل تعلن نفسها ذات نظام يهودي. النظام الديني يعني في البلدان العربية ثلاثة: دين الدولة الإسلام، والقرآن مصدر التشريع المدني، والسلطة العليا: السياسية والعسكرية والقضائية في يد المسلمين. أما المسيحيون مواطنو هذه البلدان فيحترمون هذه الثلاثة كحدود لا يتخطونها ويعيشون تاليًا بسلام، ويحظون بثقة الحكام والشعب. لبنان من جهته، يفصل الدين عن الدولة، لكنه يحترم جميع الأديان ومعتقداتها ولا يشرع شيئًا مضادًا لشريعة الله، بل يترك ما يتعلق بهذه الشريعة إلى سلطات الجماعات وفقًا لأنظمة الأحوال الشخصية. ويقر مبدأ المشاركة بالمساواة بين المسيحيين والمسلمين في الحكم والإدارة، ويعتمد النظام الديموقراطي القائم على احترام جميع الحريات المدنية العامة وفقا "لإعلان شرعة حقوق الإنسان العالمي. وهكذا تتم خدمة الخير العام بالتعاون بين الأشخاص والمؤسسات على تعدديتها".

وأضاف: "إن كاريتاس لبنان المنتشرة على كامل الأراضي اللبنانية، والتي هي جهاز الكنيسة الراعوي الإجتماعي، تؤدي خدمة المحبة والخير العام للجميع من خلال برامجها الاجتماعية والانمائية والصحية المتنوعة. كما ننوه بالمنظمات غير الحكومية المسيحية الأخرى التي تؤدي خدمة الخير العام وفقا لبرامجها الخاصة. غير أن خدمة الخير العام تتأثر اليوم بسبب الأزمة الإقتصادية والاجتماعية التي تفاقمت من جراء الأزمات السياسية المتلاحقة. ولكننا نرجو حلول الاستقرار مع تأليف الحكومة الجديدة. ولا ننسى التأثير الاقتصادي والاجتماعي والإنمائي والثقافي والأمني الذي أوجده المليون ونصف مليون نازح من سوريا، بالإضافة إلى نصف مليون لاجئ فلسطيني. ما يشكل نصف سكان لبنان، غير المهيأ لاستقبال مثل هذا العدد الباهظ على رقعة جغرافية مساحتها فقط 10452 كم2، وهي أصلا غير قادرة على استيعاب سكانه الأربعة ملايين. فمن الضرورة الملحة أن يعود النازحون السوريون إلى وطنهم لكي ينعموا فيه بحقوقهم المدنية ويواصلوا تاريخهم ويحافظوا على ثقافتهم وحضارتهم. ومن الواجب بالتالي حماية لبنان من مخاطر هذا الوجود المرهق فيما ثلث سكانه تحت مستوى الفقر، و 40% من أبنائه في حالة بطالة. ويجب على المجتمع الدولي أن يفصل بين الحل السياسي في سوريا وعودة النازحين، وإلا كان مصيرهم مثل اللاجئين الفلسطينيين الذين ينتظرون الحل السياسي منذ 71 سنة، والكل على حساب لبنان وشعبه. وهذا لا يمكن قبوله".

وقال البطريرك الراعي: "ثالثًا، المسؤولون عن خدمة الخير العام، تأمين الخير العام هو من مسؤولية الجميع: إنها مسؤولية كل عضو في المجتمع وفقا لإمكاناته، بحيث يسعى بما له من مقدرات وأهلية لتحقيق هذا الخير العام الشامل للجميع، وكأنه خيره الشخصي. من المعلوم أن ملكيته الخاصة بموجب تعليم الكنيسة ليست حقا مطلقا له، بل لها وظيفة إجتماعية لصالح الانتفاع العام. وهي مسؤولية العائلة حيث يختبر الإنسان منذ الطفولة دفء الحياة الاجتماعية. فالعائلة هي الخلية الحية للمجتمع، والمدرسة الطبيعية الأولى للتربية على العلاقات الاجتماعية بالقيم الأخلاقية والإنسانية، والمكان الأول لأنسنة الإنسان والمجتمع، وهي المجتمع الطبيعي الأول حيث يعاش الحس الاجتماعي ومسؤولية تأمين الخير العام. وتساهم في ذلك الزيجات المختلطة في البيئة التعدية، كما هي الحال في لبنان. وهي مسؤولية الكنيسة لأنها من خلال خدمتها الراعوية ومؤسساتها التربوية والإستشفائية والإجتماعية والإنمائية، ومن خلال منظماتها غير الحكومية وعلى رأسها كاريتاس لبنان، تعمل وهي مسؤولية الجماعة السياسية بنوع خاص. فالغاية من وجودها إنما هي تأمين الخير العام. ولذا، تعتبر الكنيسة أن العمل السياسي "فن شريف" يلتزم توفير خير الإنسان والمجتمع. هو "فن شريف" لارتباطه بالشخص البشري وكرامته وحقوقه الأساسية، لكونه في قمة تصميم الله الخالق بشأن العالم والتاريخ. وهو فن شريف بالنسبة لأصحاب السلطة السياسية لكونهم "خدام الله للشعب وللخير" (روم 4:3). وبهذه الصفة من واجبهم العمل على توجيه طاقات المواطنين وقدرات الدولة نحو الخير العام الذي منه خير الجميع".