موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الأربعاء، ١ أغسطس / آب ٢٠١٨
كتب بشار جرار من واشنطن: ’ضاع الكاكا بين الكوكو والكيكي..‘

واشنطن – بشار جرار :

لما كنت فتى في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، كنا نتندّر -ولكن بشيء من الوجل المقنّع بطيش ما قبل مرحلة المراهقة- على ما يقرّعنا به الأهالي والمربون والمعلمون من تعليمات مشددة فيما يخص المظهر والسلوك العام. ولا شيء خاص في ذلك الزمان، فكل شيء عام يعني الحارة والعشيرة لا البيت وأهله فقط.

من القصص التي ما زلت أذكرها وأشاركها بين الحين والآخر مع أبنائي الخمسة، مدى النعيم والدلال الذين يرفلون به كونهم أبناء هذا الزمان. كان الأهل يسردون على مسامعنا قصصا قد يكون بعضها أسطوريا ويدخل في إطار الفولكلور الشعبي في نظرنا وفي نظر أبنائنا.

من بين تلك القصص وتلك على ما أذكر حقيقة، وجود قسم في مديرية الشرطة اسمه شرطة الآداب تتولى عبر دوريات راجلة في الأماكن العامة وبخاصة أماكن الترفيه من دور سينما ومتنزهات عامة التحقق من حسن سير وسلوك الشباب. على ذمة الرواة، كانت تعتبر الشعور الطويلة والسراويل الضيقة من الأعلى والمبالغ في عرضها من الأسفل، من المظاهر المثيرة للحفيظة حتى إذا رافقها التسكع أو الصفير أو التشحيط في السيارات، سرعان ما تدخلت شرطة الآداب التي كانت تمارس مهامها باللباس المدني لا العسكري.

ومن نعم ربنا عليّ، الحارة التي نشأت بها فتى ومراهقا وشابا، كانت في جبل الحسين، في أحد أحيائه الأكثر تمثيلا للطبقة الوسطى في المجتمع، حارة أردنية بكل ما تعنيه شرف الكلمة وعظمتها من معان سامية. كانت أردنية حتى النخاع من شتى المنابت والأصول من شتى الأديان ومن شتى المذاهب والطوائف، هكذا علمنا لاحقا بعد أن وعينا هول ما هو خارج الحارة وخارج الوطن من مجتمعات ودول يفرز فيها المواطنون على مفرزة الدين والعرق والطبقة.

من الذكريات الجميلة التي ما زالت موضع اعتزاز أتباهى بها كلما تحدثت لأبنائي "الأميركيين الأردنيين" أنني نشأت بحارة عمّانية حسينيّة تقدس الأخلاق وتعلي من شأن القيم والهمم العالية. كان على مصلّبنا – تقاطع الطرق- في حارتنا ثلة من الحرس "العفوي التطوعي المدني" هم خيرة شباب جيرتنا أبناء عشائر حداد وقطيشات والحنّ وجرّار وبقاعين وعطيّة وصويص والحباشنة جميعهم يتسامرون بعد شوط من الكرة الطائرة عصر كل يوم بلا شبكة فاصلة فيكون الجميع فريقا واحدا نقوم بتشجيع أدائهم الجميل من على شرفات منازلنا المطلة في بث حي مباشر على ما كان بمثابة مفرزة أمنية أيضا.

كانت فراسة الشباب وشهامتهم تأبى أن تمر سيارة مرتين دون الاستفسار من سائقها عن الغاية من مروره فإن استدعت الأمور تقديم العون انتخى منهم ما يلزم لأداء الواجب لضيف الحارة. أما لا قدّر الله إن كان المار من "إياهم" فالله لا يضع إنسانا مكانه، فأيادي الشباب سرعان ما تستبدل كرة الطائرة بوجنتي ذلك "الهامل" الذي جنى على نفسه بسلوكه المشين أو حتى المريب والشك في عرف شباب حارتنا ليس في مصلحة المتهم إطلاقا!

لما كبرنا ودخلنا الجامعة الأردنية سمعنا قصصا مشابهة في كل حارة من حارات مدننا وقرانا ومخيماتنا، فالذوق العام والأدب العام كانت معاييره واضحة وكانت في تلك الأيام ترى ارتباطا وثيقا بين المظهر والمكمن وبين الظاهر والباطن. فطول الغرة ورفعها على نحو يشي بالعنتريات أو بالافتقار إلى رجولة التصرف والموقف كان يطلق عليه اسم شباب "الكوكو".

ها قد هرمنا حتى شهدنا زمان "تحدي الكيكي" فماذا ترانا فاعلون؟ هل نضيع الكاكا (صاحبنا باللغة الكردية)؟

إعلاميا وتربويا وروحيا أرى الأمر على النحو الآتي: كإعلامي أرى أن أفضل طريقة للتعامل مع أي صرعة أو تقليعة تستهوي المراهقين هي بالتوعية وتفريغها من سر الإثارة فيها بإظهار ما تنطوي عليه من مخاطر. وعليه، فإن مشاركة فيديوهات مختارة بذكاء وخفة لا وعظ مباشر فيها، تحقق هذا الهدف بأقل الخسائر. فهذا جيل لا يستفز ولا يعاند.

أما تربويا، فأخطر ما في تحدي الكيكي هو مفهوم "التحدي" بحد ذاته، فلا زلنا نذكر بألم مئات إن لم يكن آلاف حالات الانتحار جراء التحدي الذي صممه عبقري مجرم عنصري روسي مختص بعلم النفس أراد "تخليص العالم من الأغبياء" عبر تحدي "الحوت الأزرق" والذي يبدأ بسلسلة من التحديات "الإيحاءات والأوامر" التي تبدو عادية غير ذات أهمية لتصل إلى درجة إيذاء الذات والآخرين وصولا إلى اقتراف الجرائم المروعة فالانتحار. هذا هو التحدي الحقيقي أمامنا كإعلاميين ومربين ورجال أمن وقادة مجتمع، علينا حماية صغارنا وفلذات أكبادنا من الوقوع في براثن تحديات شياطين الإنس وإغراءاتهم الشيطانية.

أما روحيا وهنا أصل الأشياء كلها بها تفسد أو تصلح، علينا أن نتقي الله في عقول ووجدان أحبتنا، إن فراغها وخواءها مدعاة لكل الشرور وبمثابة استدعاء لعدو الإنسان الأزلي إبليس اللعين. نعم هذا ليس وعظا ولا إرشادا ولا تبشيرا ولا تنظيرا، هذه حقيقة راسخة. فالقلب العمران بحب الله حقا والإيمان به حقا دون تخويف وتنفير وتهويل وتشويه، هو القلب الحصين المحصن من التحديات الغاوية المميتة. أو ليست قصتنا كبشر كلها قصة تحدي؟ تحدانا الشيطان بأكل التفاحة، لم يغونا بلذة طعمها ولا بفوائدها الصحية وإنما بزعمه الكاذب أن الله لن يطردنا من جنته إن استحوذنا على أسرار المعرفة وأصبحنا خالدين مثله. القصة إذن يا أحبة ما كانت بالكوكو ولا صارت بالكيكي، القصة بالكاكا هل نترك صاحبنا يضيع أم نمد له يد العون وإن لم يطلبها؟ هذا هو التحدي الحقيقي.