موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
كتب الأب فراس عبدربه: تعيين البطريرك بيتسابالا فرح كبير يتخلله القليل من الردود المحزنة

الأب فراس عبدربه :

 

منذ عدّة أشهر وأنا أتابع، ما يكتبه السيد داود كتاب، وغيره، بشيء من الاهتمام، وقد وصلت الى النتيجة بأن من المفيد تقديم تعليق بسيط مقتضب على ذلك كله. إلى جانب ما في كتاباته من "الإغواء العاطفي" للأذن العربية والوطنية، إلا أن هذا وحده لا يكفي لكي يجعل مما يقوله، ومع احترامي لشخصه، أمراً بالضرورة صوابيا. فالشعور ليس مؤشر الحقيقة، إنما العقل والحس السليم. ومجتمعنا العاطفي يعتبر حقيقةً ما يُسعده ويحرك مشاعره (بما في ذلك المشاعر الوطنية النبيلة).

 

لا أعلم من أي منطلق يتكلم ويعلق هذا الكاتب، السياسي بالدرجة الأولى، على أمور الكنيسة. أعتقد أن أول مبدأ تروج له المدرسة التي أفترض أن السيد كتاب المستنير ينتمي إليها، هو مبدأ الفصل بين الدين والدولة. والفصل بين الدين والدولة (وأنا أفضل كلمة التمييز بين الدين والدولة) يجب أن ينطبق على طرفي العلاقة لا على طرف واحد فقط، أي: فصل الدين عن الدولة وفي المقابل "فصل الدولة عن الدين". فما لقيصر هو لقيصر وما لله فهو لله، كما جاء في أهم تعاليم الرب يسوع المسيح عن العلاقة بين المسيحي والمستوى السياسي في مجتمعه.

 

لذلك، لا اعتقد من الملائم أن نطبق معايير الخيار السياسي على معايير الخيار الكنسي، وإلا خلقنا تشويشاً وخلطاً لا يفيد السياسيين ولا رجال الكنيسة (أو الدين بشكل عام). فالكنيسة تتعدى التقسيمات الجغرافية والإثنية والعرقية والثقافية. الكنيسة، منذ بداياتها، "جامعة" (وهذا معنى كلمة كاثوليكية باللغة اليونانية)، أي شاملة، وهي لذلك، بخلاف اليهودية على سبيل المثال، عابرة للقارات والثقافات واللغات والإثنيات، ومترفعة حتماً عن الايديولوجيات. وإن تجربة "الكنائس الوطنية" التي لطالما ضربت الكنيسة على مر العصور، وتحققت في الكنائس التي انشقت خلال الحركة البروتستانطية مع لوثر وكالفان، هي بالتأكيد ليست إرادة الرب يسوع الذي صلى في نهاية حياته قائلاً: "ليكونوا بأجمعهم واحداً"، وقد قال أيضاً: "من لا يجمع معي فهو يفرق". فالكنيسة لا يمكن أن تكون وطنية بالمعنى السياسي، وهو الأمر الذي يولد بالضرورة نزاعات وانشقاقات وتعصبات لا تخدم ملكوت الله السماوي. هذا لا يعني أن "الكنائس المحلية" هي ليست وطنية "بالمعنى الثقافي" طبعاً، ولكن مع ذلك، فمن جوهر طبيعتها أن تبقى الكنيسة المحلية "منفتحة على البعد الإرسالي الجامع"، منفتحة على كل الثقافات، وهكذا حال كل مسيحي. فالرسل كانوا كلهم من هذه الأرض، لكنهم انطلقوا إلى كل العالم وأسسوا وترأسوا كنائس في كل العالم وضمن كل الثقافات، ولم تكن هذه "النبرة الكسينوفوبيّة" (أي التي تقابل بالرفض كل من هم ليسوا من أبناء البلد) واردة اطلاقاً! فهي غريبة عن "النبرة المسيحية ونبرة الإنجيل".

 

إن معايير اختيار قادة الكنيسة، لا نجدها في فلسفة جان جاك روسّو ونظريته عن العقد الاجتماعي، ولا لدى هوبس أو لوك أو غيرهم من آباء الفكر السياسي الحديث، ولكن لدى القديس بولس الذي يجعل الصفات الشخصية (لا الوطنية) للشخص أهلا -أو لا- لتقلد منصب خدمي في هرمية الكهنوت المسيحي.

 

لذلك، أن يعيّن الكرسي الرسولي رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسابالا بطريركا على كنيسة خدمها بكل أمانة وإخلاص وتفانٍ، مدّة تزيد على 35 عاماً، لا يناقض "مبادئ الكنيسة وتقليدها الإنجيلي العريق" في اختيار أساقفتها أو قادتها. ولا يجب أن نستغرب إذا ناقضت "مبادئ العالم" المدعو بالديموقراطي.

 

إن هذا الخطاب "الكسينوفوبي"، الذي يلجأ دائماً إلى تبرير نفسه بالشعارات الوطنية الرنانة، واطلاق كلمات لا أعلم إن كان من يرددها أو من يسمعها يدرك معناها، أو يدرك أنها لم تعد اليوم تعني ما كانت تعنيه قبل خمسين عاماً (فالاستعمار اليوم لا يحتاج، يا صديقي، إلى التنقل جغرافياً: انتَ مستَعمَر في عقر بيتك وقلبك وذهنك من خلال موبايلك والانترنت والأفكار الفلسفية القادمة من الغرب... الذي تدعوه بالمُستَعمِر!).

 

إن الربط بين حركات التطبيع التي بدأتها دول عربية جديدة (سبقتها مصر والأردن قبل سنوات طويلة)، وتعيين البطريرك بيتسابالا ليس سوى ربط مصطنع وغير موفّق، يهدف في رأيي إلى ادراج عنصر "الدراما" للمقال. فموقف الفاتيكان السياسي من القضية الفلسطينية لم يتغير، وهذا ما قاله البطريرك الجديد قبل يومين فقط من اعلان تعيينه، خلال مقابلته مع فرسان القبر المقدس، المتاحة على موقع البطريركية اللاتينية.

 

أمّا موضوع "الكونسولتا" (أي الاستشارة "السرية" التي يلجأ إليها الكرسي الرسولي للتحري عن المرشحين لرتبة الأسقفية) فهي لم تحدث عندما عين البطريرك السابق، فلماذا أصبحت مشكلة الآن على افتراض انها لم تحدث؟ علماً بأنها ليست الزامية وتبقى السلطة العليا في هذه الشؤون لقداسة البابا وحده، الذي يفعل ما يراه الأنسب وفقاً لما لديه من نظرة شاملة لا ضيقة كما لدى بعض من يفكرون من داخل الصندوق، بل وأحياناً انطلاقا من مصالح شخصية أو مصالح لمجموعة معينة.

 

للكنيسة الكاثوليكية استقلال قانوني ولا تخضع في تعيينها للأساقفة لأحد. وهذا لأنها لا تخضع، في أمورها الداخلية الروحية، لأي سلطة زمانية. ولا يحتاج الكرسي الرسولي إلى تبرير قراراته أو خياراته لأحد، وإن فعل فإن ذلك من باب اللطف والذوق وأحياناً الواجب الأخلاقي في حالات معينة فقط. أما باقي التحليلات والربط ومحاولة تطبيق "نظرية المؤامرة" (التي يحبها الصحفيون لأنها تضيف على مقالاتهم نوعاً من الحماس والبعد الدراماتيكي، وإن كانت غالباً على حساب الحقيقة والإثبات العلمي المنطقي)، فإنها تبقى مجرد نظريات وتنظير (وفلسفة بالمعنى الشعبي للكلمة) حتى يتم اثباتها.

 

في البطريركية أفراد مؤهلون؟ نعم، ولكن هذا لا يكفي. فإلى جانب أهلية الشخص، كفرد بحد ذاته، توجد ظروف محيطة تحدد متى ومن وكيف يتم الاختيار. فالكفاءة هي صفة من بين عدّة صفات مطلوبة

 

يجب أن تجتمع لدى الشخص المرشح. وهذه الشروط هي في الشخص ومن حول الشخص... وهذا التمييز يعود إلى حكمة الكنيسة وقادتها، لا لأناس لا يمتون للكنيسة بصفة في حياتها وتحدياتها اليومية.

 

أعتقد ان مسألة الديون وكيف تم تسديد جزء كبير منها، بفضل أمانة وشفافية المدبر الرسولي حينها والبطريرك اليوم، هي مسألة تناقش على حدا لتشعبها. المهم في المسألة ما يلي: هذا الإنسان قام بحل مشكلة لم يتسبب بها ولمؤسسة لم يكن ينتمي إليها أصلا. هذا الإنسان لم يلجأ إلى البيع إلا بعد أن أُغلقت سائر الأبواب الأخرى في وجهه (ومن الأفضل عدم التطرق إلى الأسباب لأنها لن تحمل أبناء شعبنا وكنيستنا على الافتخار بقادتهم). من المعروف جيداً عن هذا الإنسان أنه ممن يشترون لا ممن يبيعون. وهذا ما كان عليه طوال مدة مهمته كرئيس لحراسة الأراضي المقدسة ("الإيطالية الاستعمارية" كما قد يسميها البعض، رغم أنها تقوم بما تعجز عن القيام به كثير من المؤسسات والجهات "الوطنية"). هذا الإنسان، لم يدخل إلى جيبه فلسا واحدا، وكل من يعرفه عن كثب، يعلم أنه يعيش بتجرد كبير، وفقاً لنذوره الرهبانية الفرنسيسكانية، ولا يوجد عليه غبار من هذه الناحية.

 

أما مسألة "وضع تشريعات ملزمة تفرض أن يكون البطريرك من المنطقة ومن الرعية وعلى أقل تقدير يتحدث اللغة العربية"، فهي تخالف ما قلته أعلاه: الكنيسة مستقلة وهي لا تخضع لتشريعات وطنية فيما يخص نظامها الداخلي وهذا هو معنى الفصل بين الدين والدولة، والدولة والدين. فهل نريد دولة شمولية ودكتاتورية؟ هذه الدولة موجودة، وما على من يرغب بها سوى الهجرة إلى الصين...

 

أخيراً أود بعد هذه الشحنات السلبية التي يولدها عادة النقاش أن أشارككم في إيجابية الفرح الحقيقي الذي شعر به الشعب المسيحي اللاتيني اليوم بتعيين البطريرك بيتسابالا: يكفي تصفح الفيسبوك لكي ندرك بأن أصوات المتشائمين كانت أضعف بكثير من أصوات مَن رأوا في هذا التعيين بشارة جديدة في زمن تملأه الكوارث. فكم من الرسائل الالكترونية والرسائل الصوتية والمكالمات الهاتفية قد وصلتنا اليوم يصعب احصائها؟ من البلاد وأيضاً من خارج البلاد. عبرت في غالبيتها العظمى عن فرح الشعب المسيحي الصادق باستقبال راعيه الصالح الذي أرادته في هذا الوقت العناية الربانية، ليحمي القطيع الصغير من الذئاب الخاطفة أو الذئاب التي تأتي متنكرة بلباس الحملان، كما نبهنا الرب نفسه.

 

فأهلا وسهلا سيدنا، لمجد الله الأعظم ولخلاص النفوس... أما القافلة فستسير!