موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
العالم العربي
نشر الجمعة، ١ فبراير / شباط ٢٠١٩
قبل 68 عامًا: الشيخ زايد في حاضرة الفاتيكان

الاتحاد الإماراتية :

الزمان: 1951. أي قبل 68 سنة من الآن.

المكان: حاضرة الفاتيكان روما

الحدث: الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وصحبه، يقومون بزيارة غير مسبوقة إلى مقر الكنيسة الكاثوليكية في العالم.

لا توفر المراجع التاريخية، المعروفة، تفاصيل عن زيارات إلى أوروبا قام بها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيّب الله ثراه» في ذلك الوقت، حين كان ممثلاً لشقيقه الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان حاكم إمارة أبوظبي في المنطقة الغربية. لكن المؤكد أنه قام بزيارات خارجية عديدة، خصوصًا باتجاه أوروبا. ونعرف أيضًا، أن انشغاله كان ينصب بالدرجة الأولى، على الاطلاع على تجارب الدول الأخرى في التخطيط والتنمية، وخصوصًا في تحقيق وحداتها الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية.

الصورة التي تظهر الشيخ زايد مع صحبه في الفاتيكان، والتي تعود إلى العام 1951، هي واحدة من خمس صور التقطت في أوروبا، وقد اكتشفت ضمن مجموعة مقتنيات نادرة تخص عائلة هاشم الفرنسية اللبنانية الأصل.

وبحسب المعلومات المتوفرة، فإن الشيخ زايد وصحبه، سافروا في تلك السنة من أبوظبي إلى البحرين، قبل سفرهم جوًا إلى فرنسا، وقبل عودتهم إلى الوطن، عرجوا على كل من روما، وتركيا، ومصر، ولبنان. ومن المرجح أن تلك الجولة الخارجية قد تمت خلال شهر آب من ذلك العام.

في فرنسا، ومن خلال الصور، زار الشيخ زايد وصحبه كاتدرائية نوتر دام في باريس، أما في روما فقد حرص الإماراتيون على القيام بجولة في ساحة القديس بطرس وحاضرة الفاتيكان. كان الشيخ زايد وصحبه، خلال تلك الجولة، يرتدون الزي الوطني بكامل مكوناته: الكندورة، والبشت العربي، والغترة والعقال. هذا ما تحدث به الصورة الملتقطة في تلك الرحلة، والتي عرضت في صرح زايد ضمن معرض «الشيخ زايد وأوروبا».

أما ما بعد الصورة، فإن الحديث يمتد، ويتشعب. ففي تلك الفترة كانت أنظار الأب المؤسس، تمتد إلى التعرف على ثقافات شعوب العالم المختلفة، وتلمس الإرث الذي تركته الحضارات للإنسانية، وهو ما سيكون لاحقاً واحداً من أدوات الشيخ زايد المعرفية وهو يؤسس لنهج إنساني سيكون قاعدة مشروعه الأكبر: إقامة دولة الإمارات العربية المتحدة بشكلها الحالي.

الصورة تُقرأ من تفاصيلها. ومن تلك التفاصيل يمكن «تشكيل صورة» عن الزيارة، الحدث في حينها. نتمعن في الصورة، فنطالع الأب المؤسس، بقامته المديدة يتوسط الواقفين إلى جانبيه من اليمين واليسار، بلباسهم العربي الأصيل. اثنان عن يمينه يتكئان على عَصَوَيْهما. وعن اليسار اثنان آخران من الصحب، يتوسطهما شخص فاتيكاني بلباسه المميز. خمسة من الرجال العرب، وواحد فاتيكاني يضعون في وقوفهم أمام كاميرا قديمة، علامة زمنية على نهج سيتواصل، ويتراكم، وتتعدد فيه المحطات، إلى أن يبلغ بعد 68 عامًا محطة استثنائية عنوانها: زيارة تاريخية، غير مسبوقة، يقوم بها البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، إلى منطقة الخليج العربي من البوابة الإماراتية.

كانت زيارة الشيخ زايد، وصحبه، إلى الفاتيكان في العام 1951 هي حجر الأساس في نظرته إلى أصحاب الديانات الأخرى، خصوصاً أبناء الديانات الإبراهيمية، على الرغم من انعدام المعلومات التفصيلية عنها. لكن المقدمات تعرف بنتائجها. فمنذ ذلك الحين أرسى الشيخ زايد «طيّب الله ثراه» قواعد التسامح كنهج فكري وسلوكي على الصعيد الشخصي، وعلى الصعيد المؤسسي. فهو القائل في 28 مايو 1972: إن «الخط الآخر لسياستنا مع الدّول غير الإسلامية، هو خط إنساني بحت يقوم على المحبة والتّسامح، فعلينا واجب نحو البشرية، نتعاون معها، ونتعامل معها كبشر، نحترمهم كبشر، ونكنّ لهم بقدر ما يكنّون لنا من صداقة ومودّة».

ومن هنا كان موقفه حاسماً ضد كل أشكال التمييز العنصري، فعلى مدار سنوات حكمه حافظ على مبدأ عدم الانحياز لأي تعصبات أو صراعات أو أحلاف، معتمداً بدلاً منها مدّ يد العون والمساعدة لدول العالم أجمع، وللدوائر الإقليمية والخليجية والعربية بشكل خاص، وهو ما حدده بشكل صريح بتاريخ 8 سبتمبر 1973: «إننا ندين التمييز العنصري بكافة أنواعه وأشكاله، ونساند حركات التحرر في العالم مساندة كاملة وعلى الأخص في إفريقيا، ونحن على استعداد لبذل كل ما نستطيعه من مساعدة من أجل انتصار هذه الحركات، وتحقيق العدالة وحقوق الإنسان».

ولقد برهنت العلاقات الوثيقة التي أقامها الشيخ زايد ببعد نظر مستشرف مع الغرب، على تمتّعه بقدرة وموهبة سياسية فذّة في تحقيق عنصر التوازن في العلاقات الدولية التي نجحت في جعل الإمارات دولة ذات قيمة على الخارطة الدولية، وفي ذلك يحدّد سياسته الخارجية الواعية العقلانية في خطابه في اليوم الوطني عام 1972، فيقول: «لا توجد دولة تستطيع الحياة في عزلة عن المجتمع الدّولي، ولا يستطيع شعب أن يتقدّم دون أن يرقب عن كثب خطوات الشعوب الأخرى التي سبقته على طريق التّقدم، ويحاول أن يستفيد من التجارب التي تلائم ظروفه، والعالم بما فيه من الدول ما هو إلا مجموعة من الأسر المتجاورة، وإذا حسنت العلاقة بين الجار والجار وكان شعارها الأخوة والتسامح شاع الأمن والاستقرار».

وعلى هذا الأساس، كانت مواقفه الهادفة إلى نشر القيم الصحيحة للدين الإسلامي، القائم على التّسامح ونشر روح المحبة والتعاون بين مختلف شعوب الأرض، فمنذ العام 1999 صادقت الإمارات على الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب، وتحت هذه المظلة شاركت الإمارات وزراء الداخلية في دول مجلس التعاون في اجتماعهم الذي عقد بالمنامة بتاريخ 30 أكتوبر 2001، وأعلنت تأييدها للتحرك والتعاون الدولي لمكافحة الإرهاب، وقطع مصادر التمويل عنه وعلاج أسبابه.

وبمقياس القول والفعل، نجد أن الإمارات تحتضن كنائس ومعابد عدة تتيح للناس ممارسة شعائرهم الدينية، ولدى الدولة مبادرات دولية عدة ترسخ الأمن والسلم العالمي، وتحقق الرخاء والرفاهية والعيش الكريم للجميع. وتأتي زيارة بابا الكنيسة الكاثوليكية، إلى الإمارات، في سياق متصل من المحطات على طريق العلاقات المتنامية مع الحاضرة الفاتيكانية منذ إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الطرفين، ولاشك أن أهم تلك المحطات كانت الزيارة التي قام بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى روما والفاتيكان، في 18 سبتمبر 2016، وما لاقته من اهتمام رسمي وإعلامي كبيرين كونها تحمل رسالة سلام وتسامح إلى العالم، تتمثل في ما يمكن تسميته بـ«تقليص مفهوم الصراع بين الحضارات والأديان»، إلى مفهوم أمثل ومعنى أكثر بالحوار الإنساني الثقافي، ونبذ التطرف والكراهية والتعصب الفكري والإرهاب، مع تكريس دور الإمارات الريادي في تعزيز مثل هذا النوع من الثقافة المتحضرة.

وبين العام 1951 والعام 2019، يمتد الزمن ولا ينقطع، تتعدد فيه المراحل، وتتوالى الحلقات، لكن المنطلق واحد، هو ما صاغه الأب المؤسس في مشروع رؤيوي عماده الإنسان أولاً، بكل ما تعنيه إنسانية الإنسان من كرامة وحرية ومسؤولية وقدرة على العطاء، وحماية الضعيف، وإغاثة الملهوف، والتسامح مع الآخر.. وهي كلها مبادئ أمر بها الله تعالى عباده، بألسنة أنبيائه، وبمحكم فروضه ونواهيه.

لقد كان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيّب الله ثراه»، في زيارته مع صحبه قبل ستة عقود إلى حاضرة الفاتيكان، لا يسجل مجرد لحظة آنية خلال وقوفهم أمام كاميرا. كان الأب المؤسس، في تلك اللحظة وفي تلك اللقطة يؤسس للمستقبل، يقول لأجيال رافقته، ولأجيال ستأتي من بعده، سواء كانوا من أبناء جلدته، أو من أبناء الشعوب الأخرى: «تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، نمارس فيها إنسانيتنا، ونفتح بها الطريق أمام الخير والطمأنينة والسلام في كل العالم.. فهو ما يستحقه كل بني البشر، الذين استخلفهم الله تعالى على الأرض».