موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٩ يوليو / تموز ٢٠١٨
في رثاء الكاردينال توران: مايسترو الحوار المسيحي الاسلامي

القاهرة - إميل أمين :

رحل عن عالمنا قبل بضعة أيام الرجل الذي عمل طويلاً على تعزيز حركة الحوار بين أتباع الاديان حول العالم، لاسيما في الشرق الأوسط الحزين والمتألم، والذى اصبح الموت فيه عادة كما يقال.

غاب الكاردينال توران الذي عزز لسنوات طوال اللقاء، بين المسلمين والمسيحيين في اوربا والعالم العربي بهدف بسط مظلة السلام على رؤوس المؤمنين بالله من أبناء إبراهيم بعد أن لعبت بهم نظريات صدام الحضارات، وشغلتهم وكادت أن تدمرهم أزمنة الربيع العربي المغشوش.

الذين قدر لهم الاقتراب من الراحل الكبير، ومنهم كاتب هذه السطور، عرفوا كيف عاش الرجل في داخله كاهنا بسيطاً يمارس كهنوته المقدس في هدوء داخلي وإتضاع خارجي مثير ولافت للانتباه، وأشد ما كان يلفت فيه إعتباره حركة الحوار، ضرباً من ضروب سر المصالحة، مقتدياً بالسيد المسيح، الذي كان، يجول يضع خيراً، والذي صالحنا في الآب.

لسنوات عديدة كان الأزهر الشريف في العاصمة المصرية القاهرة محطة للتوقف ولبسط مائدة الحوار مع قبلة العالم الاسلامي السني، وقد رأى طويلاً وبقناعة واضحة وصريحة أن هناك فرص عديدة للتلاقي مع العالم الاسلامي، وجسور ثقة يمكن ان تبني إن وجدت الارادات الصالحة والنوايا الطيبة.

يتساءل المرء هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن يرحل رجل الحوار بعد أخر كلمات تفوه بها وكأنها كانت وصيته الاخيرة للاجيال الاتية من بعده، يحثهم فيها على السير على درب اللقاء وفرحته، والتلاقي وبهجته، طاردين بعيداً الآحادية الفكرية، ونازعين عن عقولهم أردية الغرور الدوجمائي، وكذا الشوفينات المذهبية القاتلة.

خلال تقديمة للكتاب الذي صدر حديثاً في إيطاليا "نحن اخوة" حول مسيرة الحوار الاسلامي المسيحي، كان الراحل الكبير يؤكد على ان الكنيسة الكاثوليكية ملتزمة بالحوار بين الاديان بشكل لارجعة فيه، استفادا للوثائق التي أصدرها البابوات، بدءاً بإعلانات المجامع الكنسية التي تمثل دستوراً في هذا المجال.

في المناسبة عينها كان الكاردينال الفرنسي الاصل يشير الى انه: "إن كان صحيحاً أننا اخوة، فصحيح أننا لم نعش على هذا النحو دائماً أيضاً"، وحتي "إن لم نتمكن من نسيان الماضي، فيجب ألا نبقي سجناء فيه".

هل نحن مرغمين على الحوار؟ يتساءل الكاردينال الذي قدر له أن يخرج من شرفة الفاتيكان الرسمية عشية الثالث عشر من مارس آذار من عام 2013 ليعلن عن حبر جديد للكرسي الرسولي، البابا فرنسيس، وجل الهدف من تساؤله أن يضعنا أمام استحقاقات جواب سوف تترتب عليها علامات المستقبل، فإما بشرية حاضنة للجميع في بوتقة انصهار وتلاقي، وإما إنغرالية غير بناءة أو خلاقة تقود العالم للمواجهات والحروب.

رأى الكاردينال توران رجمه الله أننا لنسا مرغمين على الحوار فحسب، بل على المحبة ايضاً، لانه "لن يكون هناك سلام في العالم دون مصالحة بين المسيحيين والمسلمين.

كان ما تقدم أخر كلمات فاه بها الراحل الكبير، فيما الحدث الاهم الذي أختتم به حياته، والذي ربما جعلته الاقدار نهاية طيبة لمشوار حياته، تمثل في زيارته للمملكة العربية السعودية، ليكون أكبثر وأهم قامة مسيحية دولية تزور المملكة، وليقدر له أن يفتح ابوابا عريضة بالتعاون مع رابطة العالم الاسلامي، أبواباً ولاشك ساهم في فتحها بشكل حضاري وإيماني خلاق ولي العهد الامير محمد بن سلمان، الذي نادي كثيراً بضورة العودة العودة إلى الدين السمح، المنفتح، ذلك القابل للآخر والمتعاون معه، من اجل خير الأمم والشعوب، والعمل على إنزياح صورة العنف والحروب من الاطار العالمي.

على هامش لقاءاته المتعددة التي جرت بها المقادير في المملكة، كان الكاررينال توران يحذر من وبائين أستشرياً في عالمنا المعاصر، وباءان لا يمكن علاجهما عبر الادوية الكيماوية، ولا مجال للعقاقير في مجابهتهما، كان يتناول قضيتان فكريتان سببتا الكثير من المآسي وبنوع خاص منذ بداية الألفية الثالثة للميلاد.

الجهل، والاصولية... حذر منهما الرئيس الراحل للمجلس الحبري للحوار بين الاديان، معتبراً إياهما أدوات هدامة وآليات فتاكة تهدد العيش المشترك، فيما دعا الاديان الى اللقاء وتبادل الحديث، وبناء شئ معا بهدف التعرف على الآخر واكتشاف ذواتنا.

لم يكن الحديث عن الحوار بين الاديان بالنسبة للكاردينال توران مجرد شعار أو مهمة بابوية موكولة إليه، بل إقتناع عقلاني يليق بكاهن فرنسي روماني كاثوليكي، له دالة على الفكر الفلسفي والانساني المعمق، وسليل أزمنة التنوير الاوربية، حيث كشف الغطاء عن اهمية العقل البشري في التفكير، وربما كانت قدر الاسى والأذى اللذان تولدهما الحروب والعداوات على النحو الذي شب عليه في اوربا الخارجة حديثاً من الحرب العالمية الثانية المهلكة للزرع والضرع على حد سواء.

ذهب توارن دوماً إلى ان طرح التعدد الديني يشمل دعوة للتفكير في إيماننا لان كل حوار أصيل بين الاديان يبدأ باعلان الايمان، وجميع المؤمنين الذين يبحثون عن الله، كما جميع أصحاب الارادة الطيبة غير المنتمين إلى أي ديانة، يتمتعون بالكرامة عينها.

كانت مهمته التي وضعها نصب عينيه دوماً حث القادة الروحيين على منع الديانات من أن تكون في خدمة الايديولوجيات، فقد علمتنا التجارب أنه تحت جلد كل إيديولوجي يوجد إرهابي، قد يكون إرهابه فكريا أول الامر، ثم ما يلبث أن يضحي إرهاباً مادياً، والاديان لا تفرض أبداً التطرف او التمييز بل تحث على ضرورة التعامل بشكل متساو مع الجميع من دون تفرقة على أسس عرقية أو جنسية.

الحوار بين المؤمنين لاسيما مع العالم الاسلامي كان بالنسبة للراحل الكريم عبادة عقلية إن جاز التعبير لم ينفك أن يبشر بها شرقاً وغرباً، معتبراً أبها عملية مركبة وليست بسيطة بمعني أنها تفتح أعيننا بشكل واسع على أحول عوالمنا وعواصمنا السادرة الهادرة في البحر الهائج المائج.

يساءل الكارينال توران اصحاب العقول في هذا العصر..." من أين تأتي الحروب؟ وإلى جانب إجابة يعقوب الرسول في رسالته، "من اين الحروب والخصومات بينكم اليست من هنا من لذاتكم المحاربة في أعضائكم ؟"، يؤكد توران أن أحد اسباب الصراعات هو الظلم، والاقتتال من أجل الحصول على الموارد الطبيعية، وتجارة الاسلحة، وفيما يتعلق بالنزاعات كان دوماً يحمل حزناً دفيناً من جراء الادوار السلبية التي تقوم بها بعض القيادات الدينية المحرضة على العنف، وكثيراً ما أستشهد بباكستان، التي تم فيها أكثر من مرة إحراق بعض الناسس على خلفية الكفر.

آمن توران بان دور القادة الدينيين هو حماية السلام، لاسيما في اوقات الازمات كالتي يعيشها العالم حالياً، وكأنه كان يستشعر الخطر الداهم الذي بات يصرع العالم شرقاً عبر الاصولية الظلامية، وغرباً من خلال العلمانية الجافة، والانوار التي تعمي، لا التي تضي الطريق.

يخسر الفاتيكان رجلاً نادراً من رجالات الحوار والجوار، لكن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية تبقى امينة على سر الحوار، واسرار المصالحة مع الأخر، ولهذا فان افضل تكريم لذكرى الراحل الطيب، الاهتمام باكمال مسيرته، وعلى المؤمنين من المسلمين والمسيحيين الذين عرفوا الكاردينال توران في حياته أن يظلوا أمناء في الدفاع عن قناعاتهم لجهة التجميع لا التفريق، والوئام لا الخصام، من اجل بناء مجتمع إنساني متجانس، يحفل فيه البشر بالكرامة والحقوق، من دون حروب أو اخبار حروب.