موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٩ يوليو / تموز ٢٠١٩
في تفسير انحدار مستوى التعليم

حسني عايش :

جرت العادة عند الناقدين التربويين إرجاع نسبة التراجع والتقهقر في مستوى التعليم العام والعالي في بلاد العرب، إلى ضعف في المناهج، أو إلى رداءة الكتب المقررة، أو إلى أساليب التعليم والتعلّم، أو إلى ضعف المعلمين والمعلمات في المدرسة، والمدرسين والمدرسات والأساتذة والأستاذات في الجامعة، أو إلى نقص أو غياب إعدادهم المسبق لعملية التعليم، أو إلى نقص أو غياب تعليمهم وتدريبهم في أثناء الخدمة، أو إلى سلبيات المرافق المدرسية والجامعية، أو إلى الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية للتلاميذ في المدرسة، والطلبة في الجامعة، أو إلى الامتحانات القائمة على الأسئلة الموضوعية، أو إلى غياب التقييم والتقويم أولاً بأول، أو إلى غياب نظرية مؤاتية في التعلم والتعليم، أو إلى التعليم الموازي في الجامعات أو إلى خصخصة التعليم وبخاصة العالي (بَزْنَسة التعليم)، أو إلى الفساد بعامة… أو إليها جميعاً.

هذه الجردة ليست كاملة، فالمربون والباحثون المتابعون يستطيعون أن يضيفوا إليها المزيد، وأن يحددوا الثقل النسبي لكل منها في هذا الإنحدار والتقهقر الذين يوجد شبه إجماع عليهما، أغلبه ناجم عن ملاحظات وانطباعات ومقارنات عمودية بالماضي القريب، أو أفقية بالمتقدمين.

ومن ذلك – مثلاً – عجز كثير من التلاميذ والتلميذات في المدرسة والطلبة في الجامعة عن كتابة جملة سليمة لغوياً، ومفيدة معنوياً، أو عن القراءة الفاهمة، أو عن حل مسألة حساب بسيطة مثل تقسيم واحد على ثلث، أو عن التفكير الناقد أو التحليل لمعالجة قضية، أو عن الإبداع والابتكار في حل مشكلة، أو في مواجهة تحد أو خطر.

ويتجلى الجامع المشترك الأكبر لعوامل التراجع والتقهقر وأسبابها في ضعف الثقافة العامة أو الوعي العام عند مجمل خريجي وخريجات المدرسة والجامعة، فلا يستطيعون المشاركة في حوار، أو جدل، أو في خطاب خاص بموضوع أو بقضية ما، لأنهم لا يملكون الثقافة أو اللغة المشتركة الخاصتين بكل منهما. إنهم يبدون في اللقاء جهلة أو أميين، لا يدرون عما يدور الحديث أو عن ماذا يتحدث المتحدثون، وبخاصة إذا كان الموضوع اقتصادياً، أو اجتماعياً، أو سياسياً.

وعليه فقد فرحت جداً بالتقييم التربوي الدوري في الأردن لتحصيل التلاميذ والتلميذات، فالتقييم يكشف عن دَيْن التلميذ/ة على المدرسة، بينما يدينه/ا الامتحان. ومن ثم يحسن بالمسؤولين عدم ربط التقييم مطلقاً بكلمة امتحان أو الامتحان. ليقولوا مثلاً: اختبار أو مقياس أو تقييم.

وكذلك سرني إدخال المناظرات (Debates) وهي غير الحوار (Dialogue) إلى البرنامج المدرسي العام (فهدف الحوار دفاع كل طرف عن موقفه وترك الحكم للحضور. أما هدف الحوار فهو توصل المتحاورين إلى اتفاق في الموضوع) إنها إضافة تحتاج إلى تنظيم جيد وبحيث يشارك فيها التلاميذ والتلميذات جميعاً مرة واحدة على الأقل في حياتهم المدرسية ولا يعطون – في غير يوم المناظرة- عناوين الموضوعات التي سيتم المناظرة فيها. إنها حقاً إضافة نوعية بحاجة إلى إعداد واستعداد ومرافق… وقيادة لتنجح وتدوم.

وبما أن كثيراً من خريجي المدرسة وخريجاتها يواصلون التعليم العالي هنا وهناك ويحصل كثير منهم عليه بسهولة: بالكوتات، والقوائم، والاستثناءات، والاقصاءات في الجامعات الرسمية، أو بالالتحاق بالجامعات التجارية (الخاصة) المحلية والعربية، أو بالأجنبية الفاسدة وبخاصة في بلدان ما كان يسمى بمنظومة الدول الاشتراكية الباحثة عن البقاء بالرسوم وبمبيعات الدرجات الجامعية للطلبة الأجانب لتبقى، فإن التعليم العالي ينزل إلى مستواهم سنة بعد أخرى وليس العكس. وبمرور الوقت يألف المجتمع هذا النوع أو المستوى من التعليم وخريجيه وخريجاته، فالتلاميذ والتلميذات والطلبة يتظاهرون بالتعلّم والنجاح والتخرج فيه، والمعلمون والمعلمات والمدرسون والمدرسات والأساتذة والأستاذات يتظاهرون بالتعليم والتجويد، والمجتمع يتظاهر وهيئات الاعتماد بالتصديق.

ويزداد الوضع سوءاً بانتشار كثير من هؤلاء التلاميذ والتلميذات أو الطلبة وقد حصلوا على الدرجات الجامعية السّهلة في التعليم العام والعالي وفي إدارتهما وإدارة الدولة كذلك، مما يكرّس التراجع ويزيد من حدة التقهقر محلياً وإقليمياً ودولياً.

لكان لماذا حدث ذلك أو يحدث؟ والجواب هو لتلك العوامل والأسباب الواردة في مقدمة هذا المقال، ولانتهاء عصر العمالقة السائد في المدرسة والجامعة والإدارة العامة الضابطة والمنضبطة أيضاً في البلاد العربية، قبيل الاستقلال وفي أثناء تأسيس الدولة الذين تخرجوا في حينه في أعرق الجامعات الأجنبية، والعربية (التي لم يعد بعضها عريقاً بسبب الفساد أو الحرمان المالي)، وأداروا الدولة والتعليم العام والجامعي وعلموا فيهما، ولكنهم صاروا يختفون أو يتلاشون بالتقاعد أو الموت، حتى إذا وصلنا إلى نهاية القرن العشرين أو بدايات القرن الحالي لا نجد منهم أحداً، مفسحين المجال لتسلل خريجي/ أقزام الجامعات القديمة والجديدة العامة والخاصة (والأجنبية التي تبيع الدرجات لمن يدفع) المنتشرة كالفطر، إلى مواقعهم في الإدارة العامة والتعليم بعد أن حصلوا على درجاتها التي تفيد: خذ شهادتك اليوم ولا تدرس فيما بعد فقد ختمت العلم. وهكذا تحل العملة الخبيثة محل العملة الجيدة.

كان الخريجون في الماضي يفخرون بالتخرج من تلك الجامعات. أما كثير من خريجي وخريجات اليوم، فلا يذكرون أسماء جامعاتهم لأنهم يستحون من أسمائها لأن كثيراً منهم نال درجاتها الجامعية بالغش، أو بالرشوة، أو بالشراء.. فيتباهى بالدرجة أو بالورقة المصدقة (؟) ولا يذكر اسم الجامعة. بل إن بعضهم يفبرك أدلة أنه حصل على الدرجة الجامعية بالحضور ويحاول إجبار أقسام المعادلات على تثبيت ذلك، مع أنهم حصلوا عليها بالغياب حتى في تخصصات الهندسة والطب.

لقد رأيت بنفسي – في عاصمة عربية – طلبة من الخليج مسجلين في كثير من جامعاتها، لا يحضرون سوى عند قرب موعد الامتحان، ويقيمون في فنادق من خمسة نجوم يتم فيها إعدادهم للامتحانات غداً أو بعد غد على أيدي بعض المدرسين والمدرسات أو الأساتذة والأستاذات إياهم أصحاب الامتحانات، وهو ترتيب هدفه رفع الحرج عن الجميع، وإلا لنجُّحوا وحصلوا على الدرجة بأوراق بيضاء أو دون امتحان.

لقد حل جيل آخر في إدارة الدولة وإدارة التعليم المدرسي والعالي في البلاد العربية محل جيل العمالقة الذي تلا مرحلة الاستقلال وتأسيس الدولة. وهي ظاهرة لا تقتصر على الإدارة والتعليم فقط، فهي عابرة لبقية القطاعات، وبخاصة في الآداب والعلوم والقانون والفنون… ما يجعل من الصعوبة بمكان إصلاح التعليم أو الإدارة، أو تطويرهما لأن كل المحاولات تدور حول نفسها وترجع إلى المربع الأول في كل مرة. لا يوجد من يجرؤ على قرع الجرس أو لا يوجد من يسمع صوت الجرس إذا قُرع، لأن جيلا ضعيفا في كثير من البلدان يحتل الإدارة العامة ويسيطر على نظام التعليم، ووراءه قوى اجتماعية وسياسية… تؤيده.

ويزيد الطين بله جبن الحكومات أمام هذه القوى، فتسايرها أو تنافق لها وتقوي نفوذها، بالتنازل عن متطلبات القانون أو الحق والعدل، أو الجودة في كل مرة، لأصحاب الأصوات العالية منها والمبتزين لها، أو نيلاً للشعبية الزائفة الآفلة، ما يجعل الإصلاح أو التطوير صعباً أو مستحيلاً.

ملاحظة: الفرق بين جامعاتنا وجامعات الخليج، أن إدارات جامعاتنا (الخاصة) تنحني للطلبة الخليجيين والأجانب لتبقى. أما جامعات الخليج فينحني المدرسون والمدرسات العرب والأجانب فيها للطلبة ليبقوا.

(الغد الأردنية)