موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٢٩ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٨
في الفلسفة والسياسة والدين

إبراهيم غرايبة :

خصصت اليونسكو منذ العام 2002 الخميس الثالث من شهر تشرين الثاني كل عام للاحتفال بالفلسفة باعتبارها تمكننا من اكتساب معنى للحياة والعمل في السياق الدولي، والحال أنه مناسبة تستحضر كثيرا من الأسئلة والمراجعات الثقيلة لكل ما استقرت عليه الحضارة الانسانية منذ قرون عدة، فالسياسة تتغير ويتغير معناها باتجاه مربك ومحير، والدين يعود إلى الفضاء العام مصحوبا بأسئلة محرجة وغامضة في تنظيم وترشيد الجدل العام، فلم تعد الدولة ومعها السياسة تؤدي دورها التقليدي أو تحتفظ بمعناها الذي اكتسبته، وفي مجال الدين أيضا فإن النموذجين السائدين للعلاقة بين الدين والفضاء العام، وهما الحاكمية الدينية أو العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة؛ لم يعودا مستقرين، ويتعرضان للتغيير وربما الزوال.

والموضوع ليس تأمليا تجريديا أو مستقلا عن الحياة السياسية والعامة، ففي التحديات التي تتعرض لها السياسة في مفهومها وتطبيقها تصبح الديمقراطية نفسها كما الانتخابات نموذجا يتعرض للتساؤل عن الجدوى والمعنى، فالانتخابات بما هي أداة الديمقراطية ليختار الناس اتجاهاتهم في حرية وعقلانية؛ تكتسب معناها من إقبال الناس ومشاركتهم في حرية وعقلانية وبارتباطها بحياة الناس ومصالحهم، لكن حين تكون العمليات الاقتصادية والأسواق تدار بعيدا عن الانتخابات والديمقراطية فإن الدولة نفسها تتبع الأسواق والشركات، وتترك المجتمعات والانتخابات تواجه الضياع والتيه، وتتحول الديمقراطية والانتخابات إلى طقس أو عمليات احتفالية لا تؤثر فعليا في ولاية الناس أو تقديرهم للخير العام بما هو العدل والمصالح والجمال، وتحسين الحياة.

والفلسفة أيضا تواجه كما يقول تشارلز تيلر تحديا في استمرار قدرتها لمعالجة النظرية السياسية ومشكلة النظام السياسي، ويبدو أن "السياسي" لم يعد موضوعا فلسفيا إلى جانب "السياسة" و"السياسات" وهذا يقود إلى سؤال إن كنا قادرين على منح مفهوم "السياسي" الملتبس معنى عقلانيا؟ السياسي بمعنى ذلك الحقل الرمزي الذي شكلت فيه الحضارات الأولى صورة لأنفسها.

بدأت السياسة بما هي وعاء الحضارة الإنسانية تتشكل منذ تطورت المجتمعات إلى صيغ ومؤسسات أكثر تنظيما وشمولا، وصاحبت نشوء الدول الكبرى أو الامبراطوريات في مصر والرافدين والهند والصين، وفي ذلك تشكلت علاقات وفلسفات وأفكار جديدة لتنظيم مصالح الناس وعلاقاتهم، فلم تعد القرابة هي نواة المدن والقرى، لكن بدأت تنتظم في هرمية كبرى للبيروقراطيات الملكية والجيوش والدواوين والضرائب، ولم تعد الشرعية تلقائية ومتقبلة للسلطة السياسية كما كانت من قبل للكهنة والزعماء القبليين، لكن بدأت المجتمعات تفكر في القوانين والتشريعات والشرعية السياسية.

يشير الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز إلى ظهور الأفكار المحورية أو الفكر الناموسي في العالم في الفترة بين 800 – 200 ق.م تعبيرا عن التقدم الإدراكي للعالم والذي مكن الأنبياء والحكماء والكهان من التعالي على أحداث العالم بما فيها العمليات السياسية وعلى تبني موقف مستقل نحوها، ومنذ ذلك الحين صار الحكام السياسيون عرضة للنقد أيضا، لم يعد الناس ينظرون إلى الحاكم بوصفه تجليا للإله، بل ممثله البشري فحسب.

وتعرض هذا المفهوم أيضا للتحدي؛ بدأ ذلك بالصراع بين الحكام والبابوات في العصور الوسطى، وبدأت بواكير الحداثة تتخذ شكل النظام السياسي الاستبدادي على طريقة هوبز (كتاب لفياثان في القرن السابع عشر)، ثم ديمقراطية جماهيرية متسلطة، ثم الليبرالية كتطبيق للعدالة كما صاغها جون رولز، هل ما زال بإمكاننا إعطاء "السياسي" ذي الصبغة الدينية معنى عقلانيا في ظروف الديمقراطية الليبرالية الراهنة؟ .. يتساءل جون رولز (كتاب العدالة كإنصاف)

وفي الصورة التي رسمها كارل شميت للدولة الحديثة في بواكيرها تستمر السلطة السياسية في الحصول على شرعيتها من الإيمان بسلطة إله مقتدر، وحتى الملامح العقلانية لجهاز الدولة الحديثة تؤكد الطبيعة الواعية لشكل من أشكال الاندماج الاجتماعي يحققه التدخل السياسي. وحدثت تطورات باتجاه تحييد "السياسي" في بواكير الحداثة داخل إطار الدولة السيادية.

اليوم حقق المواطنون الاستقلال الاقتصادي وأزيحوا إلى الميادين الخاصة، وتطورت الصراعات الدينية في نهاية المطاف الى الحريات الدينية وحرية التعبير. ولم يكن الانقسام الطائفي وحقيقة التعددية هما فقط ما استوجب سلطة دولة علمانية قادرة على التعامل مع دعاوى كل الجماعات الدينية بحياد. لكن أيضا فإن التمكين الديمقراطي جعل شرعية الدولة مستقلة عن سلطة متعالية فاعلة فيما وراء المجتمع.

(الغد الأردنية)