موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ١١ فبراير / شباط ٢٠١٩
عن الفاتيكان والقضية الفلسطينية

إميل أمين :

طرحت زياة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية الأخيرة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة تساؤلات عديدة حول القضايا التي تقاطعت وتتقاطع فيها مسيرة تلك المؤسسة الدينية والدولية الكبيرة مع القضايا العربية الجوهرية، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية، ولعل هذه العلاقة بنوع خاص تغيب عن أعين الكثيرين حتى من بين كبار المثقفين في عالمنا العربي، ومرد ذلك أنها تحتاج لأهل الاختصاص التاريخي في الشأنين العربي والفاتيكاني على حد سواء. ماذا عن المشهد الفاتيكاني الفلسطيني عبر التاريخ وحتى اليوم؟

من دون اختصار مخل أو تطويل ممل، يعرف الجميع أن حاضرة الفاتيكان قد رفضت فكرة "تيودر هيرتزل" بإقامة وطن لليهود في أرض فلسطين، ففي السادس والعشرين من شهر يناير من عام 1904، التقى "هيرتزل" البابا "بيوس العاشر، الذي طلب من الحبر الأعظم أن يساعده على إقامة وطن قومي لليهود على الأراضي الفلسطينية.

يومها أجابه البابا بيوس بقوله: "نحن لا نستطيع أن نساند هذه الحركة (الصهيونية)، ولا يمكننا منع اليهود من الذهاب إلى القدس، كما أننا لن نضع قيوداً عليها، إن أرض القدس، وإن لم تكن دائماً مكرسة لعبادة الله، قد قدسها السيد المسيح بحياته فيها، وأنا بصفتي رئيساً للكنيسة لا أستطيع أن أجيبك خلاف ذلك. اليهود لم يعترفوا بالمسيح، لذلك لا يمكننا نحن الاعتراف بالشعب اليهودي، والقدس على هذا الأساس لا يمكن وضعها في أيدي اليهود".

كان الرفض الفاتيكاني، أي رفض الكنيسة الكاثوليكية لطلب هيرتزل إقامة وطن لليهود في فلسطين منشؤه أمران، الأول هو عدم اعتراف اليهود بالسيد المسيح، والثاني رفض الفاتيكان وقوع الشعب الفلسطيني ضحية، وهو ما حدث لاحقاً بالفعل.

وعلى هذا الأساس العقائدي المختلف جذرياً، رفض الفاتيكان أيضاً وعد بلفور الذي صدر بشأن الدولة اليهودية في عام 1917، وحظي باعتراف الدول الكبرى آنذاك.

غير أن البابوية لا تمتلك من الفرق العسكرية ما كان يمكن لها من خلالها تنفيذ إراداتها على الأرض، وإن لم يعجزها ذلك عن الاحتفاظ بآرائها الخاصة وقوتها الأخلاقية والأدبية الرافضة وضع القدس كمدينة ممزقة بين أكثر من جانب تحت سلطة اليهود مباشرة، ولهذا كانت تميل دوماً إلى فكرة تدويل القدس.

وبالرجوع إلى منشورات البابا بيوس الثاني عشر، والمقالات المنشورة في الصحيفة الفاتيكانية الرسمية "أوسيرفاتوري رومانو"، نجد أن الموقف الذي اتخذه الفاتيكان من قضية فلسطين في نهاية الحرب العالمية الثانية، قد أعلنه بشكل لا لبس فيه وببلاغة فائقة، في صيف عام 1949، السيد "جوزيف فيكتور براون، الوزير البريطاني المفوض فوق العادة لدى الحبر الأعظم حين قال: "يفضل الفاتيكان من وجهة النظر الخاصة بمصير الأماكن المقدسة، والمصالح الكاثوليكية في فلسطين بشكل عام، أن لا يسيطر على الأرض المقدسة، لا اليهود ولا العرب، وإنما قوة ثالثة. لكن مثل هذا الحل كما هو معروف جيداً، لم يمكن التوصل إليه، ونظراً للظرف الفعلي فإن الفاتيكان يفضل العرب على اليهود".

تالياً قوبل قرار بريطانيا التخلي عن انتدابها لفلسطين الذي أعلنته في ربيع 1947 بامتعاض من قبل الحبر الأعظم البابا بيوس الثاني عشر وقتها، الذي لم يستطع أن يرى طريقة مرضية بديلة لحماية المصالح الكاثوليكية في الأرض المقدسة.

أما فكرة إنشاء دولة يهودية في فلسطين، فقد كانت النظرة إليها لدى البابا بيوس الثاني عشر (1939 – 1958) مرفوضة، وذلك بسبب الهجرة اليهودية المتدفقة إلى فلسطين في ذلك الوقت، وقد كانت الرؤية الحاكمة هناك في تلك الأوقات هي: "أن أسوأ ما يمكن أن يحدث للقدس هو أن تقع تحت سيطرة اليهود".

استمر العداء لأي شكل من أشكال تقسيم فلسطين من جانب الفاتيكان حتى شهر مايو/ أيار 1948، عندما أعلنت دوائر الفاتيكان أن الحبر الأعظم على استعداد للترحيب باستمرار نظام انتداب ذي مهمة محددة هي فرض النظام والأمن والسلام كحل مؤقت تقوم الأمم المتحدة بتجربته، لكن حرب عام 1948 التي جعلت تقسيم مدينة القدس أبدية، قطعت هذه المبادرات السياسية والدبلوماسية عن طريق التأكيد، بدون أية ظلال من الشك على قوة دولة إسرائيل الجديدة، وعدم قبول أية خطة للتطبيق خاصة بخلق دولة فلسطينية واحدة.

كذلك فقد ركزت الانتباه على مشكلة الأماكن المقدسة في القدس خلال الصراع الذي جرى في العام 1948، إذ كانت القوات الأردنية والإسرائيلية احتلت مدينة القدس، وسيطر كل منهما على المدينة القديمة والجديدة على التوالي، حيث كانت الأخيرة هي مقر المراكز الإدارية الأكثر أهمية.

وعندما ووجه الحبر الأعظم بهذا الموقف الجديد، خرج عن تحفظه وقام بنشر رسالة بابوية شهيرة عنوانها "ملتبليوس كوربس"، أي بمزيد من القلق، ناقش فيها مدى ملاءمة منح القدس والمناطق المجاورة لها شخصية دولية، وذلك كضمانة أفضل لسلامة دور العبادة تحت الظروف الحالية، وقد كانت الرسالة البابوية علامة فارقة على تغير حاسم في سياسة الحبر الأعظم، فقبل كل شيء، كان البابا هو نفسه الذي اتخذ موقفاً بشأن مستقبل القدس، وليس الهيئات المساعدة مثل إقليم الأراضي المقدسة الفنسيكاني في القدس، أو المنظمة الكاثوليكية لرخاء الشرق الأدنى.

استمر الفاتيكان في وضعه الرافض لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل طوال خمس وأربعين سنة، إلى أن عقدت إسرائيل مع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو، وفي ذلك الوقت وجدت علاقات دبلوماسية كاملة بين الفاتيكان وإسرائيل منذ نهاية عام 1993.

والثابت أن العلاقة بين الكرسي الرسولي وإسرائيل تحتاج إلى مؤلفات قائمة بعينها، غير أن ما تقدم هو لمحة عابرة لجذور الإشكاليات التي شابت العلاقة بين الطرفين، ويبقى السؤال: ماذا عن فرنسيس والقضية الفلسطينية؟

ربما كان من نصيب فرنسيس - بابا إصلاح القلب بنوع خاص - حدث غير عادي في مسار القضية الفلسطينية، ففي مايو/آيار من العام 2015، تم توقيع اتفاق ثنائي بين الكرسي الرسولي وفلسطين، جاء فيه اعتراف صريح بـ"دولة فلسطين".

والشاهد أن الاتفاق الشامل الذي جرى بين الكرسي الرسولي و"دولة فلسطين"، والذي أعلن عنه في منتصف مايو من ذلك العام، قد أوصل الرحلة التي بدأت عام 1994 إلى خواتيمها، عندما أقام الفاتيكان علاقات رسمية مع منظمة التحرير الفلسطينية.

وعلى الرغم من الاحتجاج على استخدام مصطلح دولة فلسطين إلا أن هذا ليس جديداً لدى الكرسي الرسولي، ففي 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يعترف بفلسطين كدولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة، وفي اليوم ذاته، الكرسي الرسولي، الذي لديه صفة عضو مراقب في الأمم المتحدة أيضاً، أصدر بياناً، وبالفعل استبدل الكتاب السنوي الحبري بدءاً من العام 2014 لأعضاء السلك الدبلوماسي عبارة "تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية" بـ"ممثل دولة فلسطين".

لم تغلق أبواب الفاتيكان في وجه الفلسطينين أبداً، وفي عهد فرنسيس كانت مفتوحة لكبار القادة منهم، فقد زار الرئيس محمود عباس أبو مازن البابا فرنسيس عدة مرات، فيما كانت الاتصالات الهاتفية في أوقات الأزمات قائمة ومستمرة.

وعلى هامش الأزمة الخاصة بنقل السفارة كان البابا فرنسيس أيضاً يلتقي الملك عبدالله الثاني بن الحسين، في محادثات تتطرق إلى مسألة تعزيز السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، مع الإشارة الخاصة إلى مسألتي مدينة القدس، والدور المتمثل بحراسة الأماكن المقدسة، والذي تقوم به المملكة الهاشمية الأردنية.

كانت الدبلوماسية الفاتيكانية في عهد فرنسيس عوناً وسنداً للقضية الفلسطينية ولعدالتها، لاسيما في المنتديات الدولية، وكذا الهيئات الأممية وفي المقدمة منها الأمم المتحدة.

مثلت حاضرة الفاتيكان ولا تزال جداراً عالياً يحمي من خلفه أدبياً على الأقل حقوق المستضعفين في الأرض، ولا شك يأتي الشعب الفلسطيني في القلب منهم، وتبدو الكوريا الرومانية في عهد فرنسيس قوة إقناع معنوية بدورها.

يرفع فرنسيس الفقير صوته ضد كل ظلم بشري حول الكرة الأرضية، وفي القلب من تلك المظالم يبقى الشعب الفلسطيني، المهان والمجروح في أرضه التاريخية، ومن حول مقدساته الإيمانية إلى أجل غير مسمى.

(العربية)