موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٥ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٠
عظة غبطة البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا: الأحد الثاني من زمن المجيء، السنة ب

البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا :

 

لقد رأينا الأحد الماضي العلاقة بين الله والتاريخ. ونجدها، بشكل ما، اليوم أيضاً. في الواقع إنّ الكلمة الأولى التي يُفتتح بها إنجيل مرقس (مرقس ١: ١- ٨)، هي كلمة ‘arché’ والتي تعني "البدء"، أو "البداية" أو "الأساس" أو "الأصل". وهي ذات الكلمة الّتي يبدا بها السفر الأول من الكتاب المقدس، سفر التكوين، بقصة الخلق.

 

لا يستعمل القديس مرقس هذه الكلمة عشوائيا: بل يريد القول إن ما سيخبرنا به هو عبارة عن بداية وعن حياة جديدة وخلق جديد. وكما كانت كلمة الرب في بداية الخلق "الأول"، هي الكلمة الّتي خلق بها كل شيء من العدم، كذلك الآن، هنا كلمة جديدة يوجهها الله إلى ابنه المسيح، وتحديداً في اللحظة الّتي كان ابنه على وشك الدخول إلى العالم.  

 

يقتبس الإنجيلي هذا من العهد القديم: "كما كتب في سفر النبي أشعيا: هاءنذا أرسل رسولي قدامك ليعد طريقك. صوت مناد في البرية: أعدوا طريق الرب واجعلوا سبله قويمة".  (مرقس ١: ٢–٣).

 

ينسب القديس مرقس هذا الاقتباس إلى النبي أشعيا، لكن، في الواقع، يأتي الاقتباس الإنجيلي من ثلاثة مراجع مختلفة، وهي ثلاثة أسفار من العهد القديم. 

 

هناك، في البداية سفر الخروج (٢٣: ٢٠): "ها أنا مرسل أمامك ملاكا ليحفظك في الطريق ويأتي بك إلى المكان الذي أعددته". ومن ثم هناك النبي ملاخي (١: ٣): " هاءنذا مرسل رسولي فيعد الطريق أمامي“. وهناك أخيراً حقاً النبي أشعيا (٤٠: ٣): " صوت مناد في البرية: أعدوا طريق الرب واجعلوا سبل إلهنا في الصحراء قويمة".

 

تشترك هذه الاقتباسات الثلاثة في موضوع الطريق والسير: إنّها الطريق التي يسير بها الرب نفسه مع شعبه، والطريق التي يأتي الرب منها، لأن الرب على وشك العودة والسير مع شعبه مرة أخرى. كل هذا، كما يقول مرقس، هو "إنجيل" (مرقس ١: ١)، ومعناه "بشرى سارة"، إعلان سار، كلمة ملؤها الأمل.  ويسوع ذاته هو الّذي يُعلن البشرى السارة. لكن يسوع هو المحتوى أيضًا. يتلاقى الإعلان والمُعلِن. لقد أصبحت البشارة في يسوع تاريخًا وحياة.

 

يُعطينا مرقس، دائماً في الآية الأولى، دليلين، نفهم منهما أين تؤدي بنا هذه الطريق. ويُعطينا الإنجيلي فوراً تعريفاً ليسوع، ويؤكّد أن يسوع هو المسيح الموعود، المُرسَل من عند الربّ، ذاك الّذي وُعد به كملك من سلالة داود، والّذي سيحقّق كتب الأنبياء. ثم يقول أيضاً أن هذا الإنسان هو ابن الله وأنّه هو الرب نفسه.

 

ويخبرنا مَرقُس على الفور، باختصار، عن الوجهة الّتي سيصل إليها أولئك الذين يسيرون على الطريق، انطلاقاً من هذه البداية الجديدة، وهي يسوع نفسه. ويخبرنا أين سيصل أولئك الّذين سيقرأون إنجيله خطوة بخطوة.

 

وفي الواقع، يمكن تقسيم إنجيل مرقس إلى جزأين: ذروة الجزء الأول هو إعلان إيمان بطرس (مرقس ٨: ٢٩)، الّذي يُجاهر أنّ يسوع هو المسيح المنتظَر.

 

أمّا الجزء الثاني، فيتكلم عن اعتراف قائد المائة الإيمانيّ عند قدم الصليب (مرقس ١٥: ٣٩)، والّذي، لدى رؤيته يسوع يموت بهذا الشكل، يهتف: "كان هذا الرَجُلُ ابنَ الله حَقّاً!".

 

إننا نسير على الطريق، الّتي يجب أن تصل بنا إلى هناك، تحت الصليب، كي نرى أنه في البدء هناك محبة إله مصلوب. هناك حقيقة جديدة مطلقة تتمثّل في موت إله من أجل الإنسان.

 

هذا هو المكان الذي تصل إليه مسيرة الله بين البشر.

 

 يأتي هذا الاكتشاف في نهاية الطريق، لكنه يأتي على شكل نعمة، وليس عن استحقاق.

 

يجب القيام بمسيرة تحضيرية، مسيرة توبة، من أجل الوصول إلى هذا الإقرار بالإيمان. سيكون من الضروري المرور عبر الإنجيل كله شيئًا فشيئًا كي نتيح لأنفسنا التخلص من تصوراتنا الزائفة عن الربّ وعن أنفسنا، والوصول إلى هناك، على مثال قائد المئة الوثني، الذي مُنح نعمة الإقرار، في ذلك الموت، بحضور الرب بين البشر.

 

حسنًا، في سبيل بدء هذا المسار الجديد، أرسل الرب إنسانًا لإعداد الطريق وتمهيدها، وتجديد الوعي بوجود شيء جديدً في طور التكوين، لذلك فمن المستحسن الاستعداد له.

 

وهكذا، حالما يبدأ يوحنا بمنح المعمودية، يُقبل إليه العديد من الناس فوراً: "وكانت تخرج إليه بلاد اليهودية كلها وجميع أهل أورشليم (مرقس ١: ٥). لقد فُتحت الطريق من جديد، طريق البرية التي يعود إليها الرب: يخرج العديد من الناس إلى تلك الطريق في مسيرة. يترك أهل أورشليم الهيكل والذبائح لأنها لم تعد تروي ظمأ الحياة. يخرجون إلى البرية حيث يصدح صوت بقي صامتاً لمدة طويلة.

 

وتتمثل الخطوة الأولى الضرورية لبدء هذه المسيرة في قبولنا الحقيقة والاعتراف بخطايانا وحاجتنا للمغفرة. على هذا يقوم الاهتداء (التوبة، مرقس ١: ٤) الذي يُعلن عنه المعمدان، للدخول في طريق سيأتي منها الرب قبل أن نقدر نحن الذهاب إليه.

 

كان موضوع الأحد الماضي هو السهر، وهو شكل من أشكال البقاء في العالم والإقرار بحضور الرب. إن ما يُطلب منا اليوم هو الارتداد، التوبة (مرقس ١: ٤). وتتمثل الخطوة الأولى اللازمة لبدء هذه المسيرة، وكي نكون قادرين على الإقرار بحضور الرب، في وضع أنفسنا أمام الحقيقة، والإقرار بأنّنا خطأة وبحاجة إلى الغفران، وأن ندرك أننا بحاجة إلى تغيير طريقنا مهيّئين الطريق التي تعيدنا إلى ينبوعنا، إلى الله، كي تمكنه من الالتقاء بنا. هذا هو الارتداد، الذي يتحدّث عنه المعمدان، وهو الدخول في منظور طريق يأتي بها الربّ إلينا، حتى قبل أن نتمكن نحن من الذهاب إليه.