موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٧ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠
عظة غبطة البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا: الأحد الأوّل من زمن المجيء، السنة ب

البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا :

 

(مرقس ١٣، ٣٣–٣٧)

 

نبدأ اليوم سنة ليتورجيّة جديدة، يُرافقنا خلالها إنجيل القدّيس مرقس. ونبدأ بهذا المقطع (مرقس ١٣، ٣٣–٣٧)، الّذي تُدوّي فيه مرارا الدعوة إلى السهر والحذر.

 

كي يَسهُل علينا الدخول في هذه الخبرة، يروي لنا يسوع مثلًا قصيرًا عن رجل يُغادر بلده في رحلة طويلة، ويترك بيته في رعاية الخدم، ويُكلّف كلّا منهم القيام بمهمّة خاصّة. فيُكلّف البواب بمهمّة السهر، ويمتدّ هذا التكليف، فيما بعد، إلى الجميع. يجب عليهم السهر كي لا يجدهم عند عودته نائمين لا سيما وأنهم لا يعلمون زمن رجوعه.

 

ومن المقاربة بين متى (٢٥: ١٣) ولوقا (١٢: ٣٦) يتضح أنهما يستخدمان كلمات مختلفة إلا أنها كلّها تحث على الترقّب والانتظار والتأهّب. إنها تدعونا إلى اليقظة لعدم معرفتنا ساعة عودة رب البيت. وهي تؤكد أننا لا نعرف موعد نهاية الأزمنة ولا نسيطر على الزمان، لذا علينا أن نعيشه بحذر وتيقّظ.

 

الاعتبار الأوّل هو أنّ السهر لا يعني القيام بشيء خاص أو بمجموعة أفعال مُحدّدة، وإنّما هو موقف وأسلوب حياة يصدران عن القلب: السهر هو احترام الوقت الذي مُنحنا إياه. السهر هو أن نعي بأننا ننتظر شخصا ما بهدف اللقاء معه. هو الوعي بأن الله يأتي خلال هذه الحياة، وأننا في مسيرة نحو غاية محدّدة هي اللقاء معه.

 

الوقت، هذا الوقت، هو الحيّز الذي نكتشف فيه علامات حضور الله. وعليه فإن اليقظة هي فن تمييز علامات الأزمنة. ينبغي على المؤمن أن يعرف كيف يقرأ علامات الأزمنة وكيف يعير اهتمامه لواقع الإنسان وأحداث العصر وظروفه. هذا التعبير نجده في إنجيل متى (١٦: ٤) حيث يقول يسوع: "لا تستطيعون تمييز علامات الأزمنة". إن تمييز هذه العلامات هو محاولة لمعرفة كيفية التقاء تاريخ الإنسان، بطريقة ما، مع مشروع الله.

 

أمّا النوم، على العكس من ذلك، فلن يكون سوى فقدان هذا الوعي والعيش كما لو أننا لا ننتظر أيّ شخص وأن التاريخ يقتصر فقط على مجموعة من الأحداث التي تنتهي عند ذاتها. عندما يحدث ذلك، ينغلق الأفق على المكان والزمان، وتَتقوقع حياتنا حول ذاتها.

 

ولذلك، ليس من قبيل الصدفة أن تبدأ السنة الليتورجيّة تحديداً بزمن المجيء، وبهذه النظرة إلى المستقبل: من المهم أن نبدأ من هنا وأن نكون مدركين الهدف الذي نسير إليه، وإلى أين يأخذنا الربّ وأين ينتظرنا.

 

إن النظرة إلى الهدف تعطي للطريق معنى، ويمكن الاستمرار في الحياة بطريقة جديدة: يمكننا النظر إلى أمور العالم ليس كشيء مطلق، يحقق كل طموحات الإنسان، وليس كشيء ثانوي ليس له أيّة قيمة.

 

يتجنّب يسوع، في المقطع الإنجيلي، كلا الموقفين: يؤكّد تأكيدا قاطعا أنّ الزمن هو عبارة عن شوقٍ للقاء، ولكنّه يقول أيضاً أنّ هذا اللقاء لا يمكن أن يتمّ إذا لم نعشه بتنبه كبير ويقظة مستمرة.

 

يدعونا يسوع إلى العيش في العالم بأسلوب جديد. صحيح أنّ اكتمال المواعيد يتحقق في النهاية، ولكنّه صحيح أيضاً أنّنا نتذوّق منذ الآن ما نؤمن به وما نحن سائرون نحوه.

 

صحيح أن الملكوت هو أمر مستقبلي، ومع ذلك فإنّ الملكوت الّذي ننتظره هو بالفعل في وسطنا منذ الآن.

 

هذه الأرض، وهذه الحياة الّتي نعيش فيها، هي انتظارٌ لملكوت المستقبل، وهكذا فكل شيء يأخذ معنىً جديدًا. إننا نعيش في الحياة مدركين أن الوقت الحاضر هو مشاركة وترقب للحياة المستقبلية. يصبح الوقت الحاضر حيّزًا للقاء الله. وهذا الوعي يدفعنا إلى القيام بما هو صالح لأنفسنا، وأن نصبح عمّالًا متيقظين ومثابرين، وخداما يدركون كيف يستثمرون الوزنات المعطاة لنا، غير منكمشين على أنفسنا بل متنبهين لحياة العالم، مع العلم أن الموت والخوف لا يمكنهما أن يُطفئا شعلة المحبة التي مُنحنا إياها.

 

لا يقتصر الأمر على تبني هذه الرؤية التي تتطلب مسيرة اهتداء حقيقية. وهذا ما سنقرأه في إنجيل الأحد المقبل.

 

وهاكم ملاحظة أخيرة حول الآية التالية: "رَجلٌ سافَرَ وتَرَكَ بَيتَهُ، وفوّض الأمرَ إلى خَدَمِه، كُل واحِدٍ وعَمَله" (مرقس ١٣: ٣٤). قلنا إن التاريخ هو من صنع الله. الكون ملكٌ له، وكذلك الرسالة إلى العالم. إن قناعتنا بعدم تملك هذا العالم وهذا الزمان تفهمنا أن حياتنا لا تعتمد على تحقيق فوري لمشاريعنا، كما لو أن كلّ شيء يعتمد على اليوم الحاضر. وسوف نبلغ الكمال، في خضم مخططات الله السرية للعالم، عندما نكتشف ونقبل بحرية مكاننا المناسب ("كلُّ واحد وعمله") ونفهم أننا نكمّل بعضنا بعضا. إن دعوة كل شخص هي جزء من رسالة الله العظيمة، حيث يقوم الجميع، كلٌّ بحسب عمله، بالمساهمة فيها.

 

هذا الأسلوب في الحياة يجعل المسيحي شاهداً. إنه شاهد لما نحن سائرون نحوه ومؤمنون به، وشاهدٌ لأسلوب عيش جديد، لا تكون الحياة الأرضية، بموجبه، هي كلّ شيء. إنّ هذه الحياة، بالرغم من أهميتها، ليست كلّ شيء، ومن الممكن فقدانها، بشرط عدم فقدان اللقاء بالربّ.

 

لنبدأ زمن المجيء بهذه النظرة.