موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٩ سبتمبر / أيلول ٢٠١٦
عظة المطران بييرباتيستا بيتزابالّا: الأحد الرابع والعشرون

:

إن ما جاء في إنجيل اليوم طويل لكن في إمكاننا أن نقرأ النسخة القصيرة. وتحتوي القراءة الإنجيليّة على ما نسمّيه أمثال الرحمة الثلاثة والتي تنتهي بمثل الآب الرحيم أو ما يعرف بالابن الضال. يمكننا الإكتفاء بقراءة الجزء الأول والذي يحكي مثليْ الخروف الضائع والدينار المفقود فقط، لكن لنتعامل مع هذه الأمثال الثلاثة كأنها أمرٌ واحد.

نستطيع أن نقرأ في أول آيتين (لوقا ١٥: ١– ٢) أسباب سرد يسوع لهذه الأمثال: تذمّر الفرّيسيين ومعلمي الشريعة فيما بينهم على تصرفات المسيح غير الاعتيادية بعد دنو جباة الضرائب والخاطئين من يسوع ليسمعوه. “كلّمهم يسوع بهذا المَثَل” (لقد استعمل يسوع كلمة مَثَل في صيغة المفرد). في الواقع يسرد يسوع ثلاثة أمثال لكن القديس لوقا اعتبرها مثلاً واحداً وذلك لأن ثلاثتهن يمثلّن الوجه الفريد لله الآب.

لنحاول الآن التقاط بعض ملامح هذا “المَثَل” وبعض ملامح وجه الله الفريد، أن نتنوّر قليلاً. فلنبدأ بالفعل “أضاع“: أضاع الراعي خروفاً، أضاعت المرأة ديناراً وأضاع الأبٌ ابنه.
لقد كرر يسوع كلمة أضاع مع مفرداتها المختلفة ثماني مرات ( ٤، ٤، ٦، ٨، ٩، ١٧، ٢٤، ٣٢). ويذكرنا هذا الأمر أن واقع الإنسان عرضة للضياع. وعندما نقول “ضياع” فنحن لا نتكلّم عن الجانب الأخلاقي لوصف فسادنا وخطايانا، فهذه الأمور تمثّل العواقب وليس الأسباب. نحن نضلّ عندما ننسى من ننتمي إليه. في الإنجيل يُعتبر الخروف ضائعاً عندما لا يعود إلى الراعي، والدرهم إلى المرأة، والابن إلى أبيه.

نحن نضّل حينما نبتعد عن العلاقة التي تمنحنها الحياة على غرار الشاب الذي ابتعد عن بيته فمات من الجوع. أراد أن يشبع من الخُرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، ولكن لا يعطيه أحد (لوقا ١٥: ١٦)، ليس لأن الأشخاص الذين يعيش معهم ليسوا طيبين ولكن لعدم قدرة أي شخص، فيما عدا الأب، منح الحياة.

لذا فإن احتمالية الضياع يمكن تصور حدوثها لكل إنسان ولكن هذا لا يعني أن يكون ذلك نهاية المطاف. فالإنسان يستطيع أن يستعيد انتماءه ليس بقوته، بل لوجود إمكانيّة الخلاص والعودة.

وإن تكرر الفعل “أضاع” ومفرداته ثماني مرات، فالفعل “وَجَد” هو أيضاً تكرر ثماني مرات أيضاً (٤، ٥، ٦، ٨، ٩، ٩، ٢٤، ٣٢). تقول لنا أمثال الرحمة، أن كل ما فُقِد قد وُجِد. وهذا ما يصدم ويشكك المتظاهرين بالبر والورع، ونفهم موقفهم.

فلكي يجد الراعي خروفه هو مضطر نوعاً ما أن يضيع هو أيضاً، أن يسلك سبيل الضلال وأن يصل أماكن بعيدة حيث ضلّ الخروف ولا فائدة من البحث عنه في أماكن أخرى!
ولكي يجدنا الرب فإنه بدوره يخسر ذاته ويتسخ بتراب أرضنا، ويتضامن معنا. إنه يأتي حيث ضللنا. هذا هو يسوع الإنجيل الذي تشكك منه الفريسيين (آية ١–٢).

وتذكرنا كذلك الرسالة إلى العبرانيين (١٣: ٢٠): “إله السلام الذي أقام من الأموات راعي الخراف العظيم“. إنه راعي الخراف العظيم، يسوع، نزل إلى مثوى الأموات لكنه لم يبقى هناك: إله السلام أعاده إلى البيت، بقوة دم العهد في مأدبة عيد. لذا، إن صح ما سبق، إن كل ضياع يحمل في طيّاته رجاءً ووعداً فريداً. لأن المفقود وحده يمكن أن يختبر الخلاص والعودة. والشرط الوحيد، الذي يتحدانا، هو الاعتراف بحاجتنا إلى خلاص يتم في هذه الطريقة، أي اعترافنا برحمة الله الذي يبحث عنّا في أمكنة ضياعنا. والشرط الوحيد لكي يجدنا الله هو في النهاية اقرارنا بأننا تائهون.

إن فعل ضاع كما سبق القول، يتكرر في هذه الفقرة ٨ مرات. ولكن في إحدى الحالات لا تتم الترجمة بشكل حرفي، ففي الآية ١٧، عندما يعود الابن الأصغر إلى ذاته ويقول: “كم أجير في بيت أبي عنده ما يكفي من الخبز وأنا هنا أهلك جوعاً” الترجمة الاعتيادية هي أموت جوعاً. في لحظة من اللحظات وبشكل مبهم يقر الابن أنّه ضال ويذكر أحد الأعراض التي لا شك فيها: الجوع. وبغض النظر عن العبارات التي يستخدمها، فإن الابن الضال يعي أنه ضائع ويعيد قراءة حياته السابقة بهذا الشكل.
وبعد أن وعى ذلك بدأت مسيرة الخلاص الطويلة والتي ستقوده إلى اكتشاف أب يختلف عن الصورة التي كانت في ذهنه، إن هذه الآية التي تصف وعده الجديد تفتح الطريق للخلاص وأصبح كل شيء بعد ذلك ممكناً، فبعد أن عاد إلى البيت لم يجد خبزاً بل مأدبة عيد يعجز عنها الوصف.

واذا كان الجوع هو فقدان العلاقة فإن اللقاء هو عيد، العيد الوحيد. وليس من سبيل الصدفة لنا أيضاً بأن العلاقة الأعمق والأصدق التي نعيشها تتم من خلال مأدبة وعشاء قرباني. لذا فإن اعترافنا بالضياع هو الذي غيّر مجرى الأمور وهذا ما يميّز الاثنين، فالأخ الكبير لا يقرّ بأنه ضائع هو أيضاً، رغم أنّه بقي دائماً في البيت ومحترماً ومطيعاً لوالده.

ونتفاجأ بأن الأخ الأكبر يتكلّم عن الجوع وأنّه لا يأكل بما فيه الكفاية “لم تعطني جَدْياً أتنعّم به مع أصدقائي“.

في بيت الأب كان الابن الأكبر يأكل من عرق جبينه على غرار سائر الخدّام. ولم يكن هذا الغذاء يشبع جوعه لكونه ابناً وليس خادماً. فخبز الأبناء لا بد أن يكون مجانيّاً.

وعلى خلاف الأخ الأصغر فإن الأكبر لا يقرّ بأنه ضائع بل يشكو أباه بالبخل: “أنت لم تعطني“. هكذا فإن الابن الأكبر يبقى خارج البيت بينما الأخ الأصغر داخله.

لقد سمعنا هذه العبارات: في الخارج – أو في الداخل في أحدٍ سابق (لوقا ١٣: ٢٣– ٣٠)- عندما حدّثنا الانجيل عن الباب الضيّق: من خلاله لا يدخل إلا الآتون من بعيد مثل الابن الضال. أما الذين يظنون أنهم في الداخل، سيبقون في الخارج.

في الداخل يتم العيد. ويركّز مَثَل الرحمة على أن المُعيّد هو الذي يلقى وينقذ أي الراعي والمرأة والأب: الله هو المحتفل والمُعيّد بعد اللقاء وكأن الله لا يقدر أن يعيش بدون هذا اللقاء.