موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٦ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٨
عظة المطران بيتسابالا للأحد الثلاثين من زمن السنة

:

في رواية التكوين التي تصف لنا خطيئة آدم وحواء، نلقى تركيزا خاصا على حاسة النظر. يُروى بالفعل أن الأفعى كانت قد وعدت حواء أن "تنفتح عيناها" وعينا آدم (تكوين ٣: ٥). وعلى الفور، رأت حواء حُسْن الثمرة فأخذتها وأكلت منها (تكوين ٣: ٦). وبالفعل، انفتحت أعينهما إلا أنهما رأيا عُريَهما وشعرا بالخزي. انفتحت أعينهما ولكنهما الآن يريان كل شيء بطريقة مشوهة، انطلاقاً من أنفسهما وليست من علاقتهما مع الله. وعليه، فإن طريقة رؤيتهما للأمور جزئية، ولا يريان الواقع بعد الآن بصورته الكاملة. إن علاقتهما مع الرب قد تأذت، وعند مجيئه اختبأ الإنسان من وجهه. لم يعد الإنسان يستطيع رؤيته والتعرف عليه أو تحمّل حضوره.

في المقابل، ما يثير الاهتمام هو أنه خلال اللقاءات مع يسوع القائم من بين الأموات، كان للنظر دور خاص. في أحداث عديدة نجد العبارة التالية: "فانفتحت أعينهما وعرفاه" (راجع لوقا ٢٤: ٣١). هنالك شفاء للنظر، إذ يتعلم التلاميذ من جديد أن يروا الرب وأن يروا الحقيقة بكاملها. هذا الواقع هو السر الفصحي، سر الموت والقيامة.

ونظرا لما سبق، يصبح ذا مغزى أن تكون معجزة يسوع الأخيرة هي شفاء الرجل الأعمى. شفاه وهو في طريقه إلى أورشليم وعند اقترابه من المدينة المقدسة.

ومن بين الذين شفاهم يسوع، هذا الأعمى هو الشخص الوحيد الذي نعرف اسمه تماما كما نعرف أسماء تلاميذ يسوع الإثني عشر. ولربما يعود السبب إلى كون برطيماوس تلميذاً هو أيضاً. وفي الآيات القليلة المتعلقة به، نستطيع أن نجد كامل المسيرة التي يُدعى التلميذ أن يسير فيها حتى يتمكن من الرؤية.

قبل كل شيء، سَمِعَ برطيماوس يسوع (مرقس ١٠: ٤٧). هو معروف كشحاذ يتسوّل على جانب الطريق. يبدو إنسانا من دون كرامة، ولكنه حيّ، ولا يزال يأمل في العيش الكريم. وطالما يستطيع أن يسمع فبوسعه أن يصيح. إن صياحه هو صلاة. في إنجيل مرقس، برطيماوس هو الشخص الوحيد الذي يتضرع إلى يسوع بصورة نداء، وهذا دليل على الثقة والانتظار الأكيد.

لاحقاً يُعبر برطيماوس عن رغبة في أعماقه. وساعده يسوع على التعبير عنها بسؤاله: "ماذا تريد أن أصنع لك؟" (مرقس ١٠: ٥١) كان الجواب: "أن أبصر". في كلام يسوع إشارة إلى قراءة الأحد الماضي، حينما طلب منه يعقوب ويوحنا أن يلبي لهما طلبًا يرغبان فيه. فأجاب يسوع بأنهما لا يعلمان ماذا يطلبان. أما برطيماوس في المقابل، فهو يعرف ما يريد، ويطلبه من يسوع بكل ثقة. وبعكس التلميذين، يطلب من دون ادعاء.

يعبر عن طلبه في إطار علاقة تصبح حميمة أكثر فأكثر إلى درجة مناداته: "رابوني، أي معلمي" وهو تعبير نجده مرتين فقط في الأناجيل الأربعة: في هذا المقطع وعندما تنطق به مريم المجدلية في الفصل ٢٠ الآية ١٦ من انجيل يوحنا. وعليه وبعد هذه المسيرة من الثقة والرغبة والعلاقة الوثيقة والصلاة، يسترد برطيماوس بصره. إنه يبصر من يريد أن يرى ألا وهو وجه الشخص الذي شفاه.

إلا أن المسيرة لم تنته بل بدأت الآن. برطيماوس الذي كان جالساً على جانب الطريق مثل من لا يملك هدفاً في الحياة ومن دون أن يتبع أحدا، يبدأ مسيرة مع يسوع. في الواقع، يستعمل مرقس كلمة تبع. يصبح برطيماوس واحدًا من أتباع يسوع السائرين معه في الطريق (مرقس ١٠: ٥٢). لقد أصبح تلميذاً.

من المثير للاهتمام الان المقارنة بين هذه المعجزة والمعجزة الأولى التي يرويها مرقس. تتم في الفصل الأول (مر1: ٢١- ٢٨) في مجمع كفرناحوم حيث طرد يسوع الروح النجس. في المجمع، بقي الروح النجس صامتاً. ولكنه أحسّ بالتهديد حينما دخل يسوع، ذلك لعدم وجود انسجام بين القداسة والنجاسة. على غرار الشحاذ، يصيح الروح النجس أيضاً ولكن ليس طلبا للشفاء. أراد أن يخبر بسرعة عن هوية يسوع. بشكل ما هولا يقول الحقيقة ولا يراها لأن الحقيقة الكاملة ستتجلى بعد إتمام السر الفصحي حينما سيكون جلياً أن يسوع هو المسيح حقاً، بثمن الصليب.

في أسفل الصليب نجد شخصًا آخرًا قادرًا على الرؤية. إنه قائد المئة الذي رأى يسوع يلفظ الروح (مرقس ١٥: ٣٨)، فأدرك أن هذا الرجل هو ابن الله. يرى إلهًا يعيش قداسة حقيقة ليست بالانعزال بل بالمشاركة عبر تحمّله سيئاتنا كي ننال الخلاص.

يمكن القول إذًا إن هذه المعجزة هي رمز لما سيجري في أورشليم، لشفاء سيتم عرضه علينا، ويصبح ملكنا من خلال هبة العماد، الذي هو سر الحياة والنور والشفاء من الخطيئة التي تمنعنا من رؤية مجد الصليب وحياة المحبة.