موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٣٠ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٨
عظة المطران بيتسابالا للأحد الأول لزمن المجيء

:

تبدأ هذا الأحد سنة ليتورجيّة جديدة، يُرافقنا خلالها الإنجيل بحسب القدّيس لوقا، لمعرفة الربّ والنموّ في الإيمان.

سوف نعيش مرّة أخرى كلّ أسرار المسيح، بحيث أنّ حياته تأخذ حيّزاً أوسع فينا، من سنة إلى أخرى، فتُصبح حياتنا هي حياته ذاتها. وكما هو الحال في كلّ عام، تبدأ رحلتنا بزمن المجيء، وهو الزمن الّذي نقترب فيه خطوة تلو الأخرى للقاء الربّ الّذي سيظهر في الجسد.

إنّه حدث أعدّه الربّ الإله نفسه على مرّ القرون: ونحن مشمولون في هذا الإعداد الطويل.

إنّ المقطع الإنجيلي الّذي نستمع إليه اليوم مأخوذٌ من الفصل ٢١ لبشارة لوقا، وهو الفصل الّذي يسبق رواية الآلام مباشرة؛ وعلى غرار الأناجيل الإزائيّة الأخرى، تضع بشارة لوقا أيضاً، في هذه المرحلة وقبل الآلام، خطابا "إسكاتولجيّاً" (أخرويّاً)، وهو عبارة عن تأمّل عن آخر الأزمنة، وعن عودة السيد المسيح. وهذا يعني أنّ الفصح هو، بالتحديد، النور الحقيقي الّذي يمكن ، من خلاله، فهم معنى التاريخ.

ينقسم المقطع الإنجيلي إلى قسمين، ومن كلّ قسم منهما سوف نستخلص نقطة للتأمّل.

في القسم الأوّل (لوقا ٢١، ٢٥-٢٨)، يمكننا أن نرى، بوضوح معيّن، مسار تاريخ الإنسان. وهناك عنصران. أولا، هناك وقت من الاضطرابات، والخوف، والألم. يمكننا القول أن هذا الوقت لا يختلف عن الحياة العادية اليوميّة للناس، التي تتكوّن غالبا من هذا الواقع الأليم. إنه وقت الشدائد، وهو ذو طبيعة مؤقتة، مع خيارات يتعين اتخاذها، وخطوات غير مُنجزة، ووقت في طور التقدم.

لكن الشيء المهم، الذي يقوله يسوع، هو أن هذه الحياة تمضي نحو نهايتها؛ يمكننا القول أن هذه الحياة هي بمثابة رحم، يحوي في داخله ما ينتظره وما خُلق الرحم من أجله. إنّ التاريخ لا يسير نحو نهايته، نحو فناء كلّ شيء، نحو الفوضى والموت؛ بل إنّه يسير نحو لقاء الربّ. وهذا هو الخبر العظيم الّذي يُقدّمه إنجيل هذا اليوم: الربّ آتٍ (لوقا ٢١، ٢٧). بينما يمضي التاريخ نحو نهاية ما، يأتينا الربّ، ويدخل في التاريخ.

من الجزء الثاني من المقطع الإنجيلي، نفهم أنّ مجيء الربّ هذا سوف يتمّ النظر إليه وعيشه بأشكال مختلفة: فبالنسبة للبعض سوف يكون فخّاً (لوقا ٢١، ٣٥)، وبالنسبة للآخرين سوف يكون افتداءً وتحريراً (لوقا ٢١، ٢٨). إنّ الفخ هو عبارة عن شيء يأتيك فجأة: سيكون مجيء الربّ، بالنسبة للبعض منا، بمثابة حدث غير متوقع يحدث دون أن نكون منتظرين إياه، لأننا كنّا مشغولين بشيء آخر، كشيء لم يكن لدينا فكرة عمّا يمكن أن يكون. هذا يدل على أن هناك إمكانية عيش الحياة كلها دون أن نعرف أن لها معنى، وأننا سوف نلتقي بالربّ.

إن لم نؤمن بهذا اللقاء، فليس من المستغرب أن تكون الحياة مثقلة بالأعباء، والسكر، والضيقات (لو ٢١: ٣٤): هذا هو وضع أولئك الذين ليس لديهم أفق آخر لحياتهم الخاصة، سوى اللحظة الآنيّة، ويتوجّب عليهم العثور على ألف طريقة لملء الفراغ، وللهروب من الشعور بالوحدة. إنه وضع أولئك الذين لم يسبق لهم أبداً، في حياتهم، أن كانوا "أمام ابن الإنسان" (لو ٢١: ٣٦)، وبالتأكيد لن يتعلّموا القيام بهذا في آخر الأيّام؛ لأن الحياة تُعطى لنا الان لكي نتعلم هذا الفن، أي أن نكون مع الرب.

بينما بالنسبة لأناس آخرين، سيكون مجيء الرب تحرّراً وتخلصا من الوحدة بشكل نهائيّ. سيكون المجيء اللحظة التي يرى فيها الإنسان أن الخلاص الذي آمن به والذي وضع فيه أمله يتحقق فعلا، وأنه يُحقّق حياته كلها. إنّ ما يُحدّد الفرق بين النهايتين المختلفتين للوجود الإنساني لا يعتمد كثيراً على المسألة الأخلاقيّة، على احترام القانون وعلى الكمال الشخصي. بل سيعتمد على القدرة على اليقظة (لو ٢١: ٣٤،٣٦)، أو بالأحرى على طريقة عيش الشخص الّذي يعيش في العالم ويعرف أن هذا العالم ليس كل شيء، وينتظر عالماً آخراً. إنه موقف ذلك الذي يظلّ منفتحاً، ذلك الذي لا يملأ حياته، ذلك الذي يترك دائما مكانا حرا في نفسه، كي يكون قادراً على الاندهاش وعلى الترحيب. وهذا هو موقف الشخص الّذي ينتظر شيئًا جديدًا، ويعيش كل شيء وهو يعلم أن الجدة تبدأ تحديداً من هناك.

إلى جانب اليقظة، يذكر يسوع الصلاة (لوقا ٢١:٣٥): يسهر الإنسان عندما يصلي فقط، وإذا لم يصلِّ ينم، مثل الرسل في بستان الزيتون. لأن الصلاة هي الإمكانية الحقيقية للبقاء في الحياة دون هروب، ودون ضياع أمام التعقيدات أو الألم. كثيراً ما نُفكّر في الصلاة كطريقة لتغيير الواقع، كعالم بديل وسحري إلى حد ما، حيث يمكننا اللجوء إليه عندما تصبح الحياة صعبة للغاية. إنّ الصلاة، في الواقع، هي عكس ذلك تماماً، فهي تستمد من الرب القوة للبقاء في داخل الأحداث، ميقنين أننا لسنا وحدنا، وأن كل شيء يمكن أن يُفقد، ما عدا هذا الحضور، حضور الرب.