موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ١١ مايو / أيار ٢٠١٨
عظة المطران بيتسابالا: الأحد السابع من الزمن الفصحي

:

نحن الآن في نهايات الزمن الفصحي. ونقرأ اليوم في الليتورجيا مقطعًا من الفصل السابع عشر من إنجيل يوحنا. يُعد هذا الفصل جزءًا من خطاب يسوع الوداعي، إلا أنه يختلف عن الفصول التي سبقته. هنا يتوقف يسوع عن مخاطبة تلاميذه ويتحدث مباشرة مع الآب في صلاة طويلة وحميمة.

في الآيات التي نقرأها اليوم (يوحنا ١٧: ١١-١٩)، يرفع يسوع صلاته إلى الآب من أجل التلاميذ، وهو يعلم أن الساعة قد حانت كي يتركهم، ويعيد ائتمانهم إلى الآب الذي كان قد ائتمنه عليهم.

ماذا يطلب يسوع؟

ببساطة يطلب أمرين نجدهما في الآيتين ١١ و١٧: "احفَظْهم" و"كَرِّسهم".

لننظر إلى الأمر الأول: "احفَظْهم".

يعرف يسوع تلاميذه، كما ويعلم بحاجتهم إلى أن يكونوا محميين أي في أمن وأمان.

إذ يواصل التلاميذ العيش في العالم (آية ١٥- ١٦)، ولا يستطيعون التغلب على الشرير لوحدهم (آية ١٥). فهم بحاجة إلى ملاذ آمن لا يتوقفون فيه عن كونهم واحداً (آية ١١).

ما هو هذا الملاذ الآمن؟

بالنسبة إلى يسوع، لا يوجد أي ملجأ آمن سوى في اسم الآب. في الكتب المقدسة، يُعبّر الاسم عن هوية وانتماء ووحدة. يُمثل اسم الله حقيقة الله ذاته، لذا لم يكن مسموحا لفظ اسم الجلالة. وها إن يصلي يسوع أن يكون التلاميذ في حمى الله الآب من خلال الوحدة معه.

أمن الإنسان يتطلب أن يكون لديه أب، ذلك المرجع الذي يعلم أنه جاء منه وإليه يعود وإليه يلجأ فيشعر بالمحبة والترحاب. تكون هذه الحياة محروسة عندما يكون هذا الحضور ثابتاً ً ونابعا من الداخل وله اسم معروف نعلم أنه باستطاعتنا استدعاءه دون أي خوف. هذا الاسم هو بمثابة قلعة وحصن حصين، كما تُردد مزامير عدة.

وحتى يسوع نفسه يبدأ صلاته بمناداة الله تحت اسم الآب الذي يتكرر ذكره في هذا الفصل٤ مرات. وكم مرة تلفّظ يسوع بهذه الكلمة في الإنجيل!!!

يربط يسوع أيضاً حماية الاب للتلاميذ بكونهم واحداً. بالفعل، هنالك علاقة وطيدة بين الأمرين، لا بل أكثر من ذلك، فالأول يعتمد على الثاني. في بقاء التلاميذ في حمى الآب يستطيعون أن يكونوا واحداً. ولكن إن تفّرقوا وأقام كل واحد لنفسه اسماً آخر (راجع التكوين ١١: ٤ في رواية بناء برج بابل: "لنُقم لنا اسماً كي لا نَتَفَرّق على وَجهِ الأرض كُلّها")، ستضعف إمكانية تحقيق الوحدة والأخوة وسيكون تأثير الكنيسة قليلاً.

أما الأمر الثاني الذي يطلبه يسوع فهو تكريس التلاميذ.

هذه الآيات الإنجيلية متطلبة: "كَرِّسْهُم بالحَقّ. إنَّ كَلِمَتَكَ حَقّ. كما أَرسلتَني إلى العالَم فكذلك أنا أَرسَلتُهم إلى العالم وأكرِّسُ نَفْسي من أجلهِم ليكونوا هم أيضاً مُكرّسين بالحَقّ" (يوحنا ١٧: ١٧- ١٩).

كي نفهم النص جيداً، لنرجع خطوة إلى الوراء. في الآية ٣٦ من الفصل العاشر من إنجيل يوحنا، نجد آية مشابهة: "كيف تقولون للذي قدَّسَه الآب وأرسلَه إلى العالَم…".

في المقطعين نجد رابطاً بين التكريس والإرسال. لقد كرّس الله يسوع، أي أنه صار، في العالم مكان حضوره، وأظهر اسمه. نحن نتكرّس كي نُرسل إلى العالم. ونحن لانقوم بذلك باسمنا الشخصي بل باسم الله الحاضر فينا ويسكن داخلنا وننتمي إليه.

وعليه فإن التلاميذ مدعوون دعوة خاصة ومقدسة وهي الاصغاء إلى كلمة الحق. لقد منحهم يسوع كلمة الآب (يوحنا ١٧: ١٤)، وفصلهم عن العالم. انفصلوا عنه حتى يتم إرسالهم إليه مرة أخرى كمعلنين للإنجيل.

حينها سيصبح المسيحيون حاملين لكلمة جديدة، كلمة فريدة ومحيّرة، كلمة تختلف عن منطق العالم الذي لا يعترف بهم "خاصة" له. وهذه الكلمة هي كلمة الحق الوحيدة، لا بل الحقيقة ذاتها.

وهذه الكلمة تخلق رابطاً بين الآب والابن، وبين يسوع وتلاميذه. يُصلي يسوع من أجل أن يصبحوا مُكرّسين في هذه الكلمة الحقيقية، التي تجعل منهم أشخاصا جددا، أشخاصا لا يعيشون لأجل ذواتهم بل يُرسلون إلى العالم (يوحنا ١٧: ١٨) كي يُعلنوا أن هنالك كلمة حق للجميع وأن هنالك ملاذاً آمناً، وهذا المكان الآمن هو اسم الآب.

يصلي إذاً يسوع لسببين: ليس فقط كي نكون محميين وكي نحظى بحياة آمنة بين يدي الآب وباسمه، بل أيضاً لأننا سنُرسل، ونحن نشعر بهذا الأمان وهذه الحماية، إلى العالم وإلي إخواننا لنمنحهم الهبة التي حصلنا عليها مجاناً.