موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٥ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٨
عظة المدبر الرسولي في قداس ليلة عيد الميلاد

بيت لحم :

"جاء يسوع المسيح ليسكن في مدينتنا"

السيد الرئيس، السلطات المدنية
الإخوة الأساقفة والكهنة
أبناءَ بطريركيتنا، والحجاجُ القادمون من أنحاء العالم، وأنتم جميعًا الحاضرين هنا في هذه الليلة المقدسة، والمشاهدين والمشاركين معنا في صلاتنا، في كل أنحاء العالم،

سلام وكل عام وأنتم بخير.
إننا نلتقي جميعًا في هذه الليلة المقدسة، لأننا دُعِينا وجمعنا الله هنا في بيت لحم، المدينة التي وُلد فيها المخلص، يسوع المسيح.
"لما ولد يسوع في بيت لحم" (متى ٢: ١). ليست هذه الآية إشارة تاريخية فقط أو جغرافية، ولكنها تشير إلى تدبير إلهي. أن يولد يسوع المسيح هنا، في هذا المكان، وفي هذه المدينة وفي هذه الأرض، هذا ما أراده الله منذ الأزل، لأنه أحبّنا وأحبّ مدننا. بدأ الكتاب المقدس بالكلام على بستان، جنة عدن، وانتهى في مدينة، في القدس المدينة المقدسة. وحياة يسوع المسيح، منذ الولادة وحتى الموت، كانت تجوالًا مستمرًّا بين المدن والقرى، وكان اعتزاله في القفر لفترات متقطعة ضرورية ولكنه كان عابرًا.

بيت لحم والناصرة وكفركنا، وكفر ناحوم، والقدس، كلها أسماء عزيزة على قلوبنا، لأنها أسماء المدن التي أحبّها يسوع وتجوّل بينها. وبعده استمر الرسل يتجوّلون في مدن أخرى: قورنثس، وأفسس، وتسالونيكي، وأنطاكية، وروما ... والمسيرة مستمرة في مدننا اليوم، يُلهِمُها ويَهديها حضوره الدائم بيننا: "ها أنا معكم كل يوم، حتى نهاية العالم" (متى ٢٨ ، ٢٠).

إلهنا إلهٌ معنا. يسكن في مدينتنا، بيننا. يسكن مع الناس. اسمه عمانوئيل، أي الله معنا. كلمة الله الأزلي لا أحد يقدر أن يحصره في عبادة فردية أو شخصية. إنه يسير ويتجوَّل، ويبحث عن طريق وعن بيت وعن مدينة يسكن فيها ليبدِّلها تبديلًا. من ظنّ أنه يقدر على أن يحصر الإنجيل والحضور المسيحي في حدود خاصة شخصية أو قومية، فهو لا يدرك ولا يفهم إرادة الله. لأن الكلمة المتجسد هو الخميرة الذي يخمِّر العجين كلَّه، كلَّ من يصل هو إليه، كلّ الإنسانية، الكون والتاريخ، الحياة والمدينة كلّها.

بميلاد يسوع المسيح في بيت لحم تقدَّم الله نحو أرضنا ومدينتنا. الدعوة التي وُجِهَت إلى الرعاة والمجوس، تتكرَّر اليوم وتُوجَّه إلينا، لنذهب نحن أيضًا إلى بيت لحم، للقاء الله فيها، ومن هذا اللقاء نعانق أقاصي الأرض. ولادة يسوع المسيح في مدينتنا تريد أن تضرم في داخل كلِّ واحدٍ منّا "حبًّا وهوًى للمدينة"، لا بمعنى التملُّك، ولا بمعنى الاحتلال، ولكن بمعنى الإحساس بالمسؤولية لمزيد من الاهتمام والرعاية للمدينة والأرض التي نسكنها، لنبدِّلها من تجمُّع سكّاني بسيط لخدمة بعض الأشخاص أو بعض المصالح، إلى مساحة ومكان نختبر فيه صنع السلام والعلاقات السليمة بين بعضنا البعض، والمشاركة في الحياة.

اسمحوا لي في هذا المساء أن ألقي نظرة، مدقِّقة ومشارِكة، إلى مدننا وطرق سكنانا فيها. في نور كلمة الله الذي جاء وسكن بيننا، أريد أن أتوقَّف معكم لأتأمّل في هذه "الإقامة الإلهية" بيننا، التي أراد كلمة الله بها أن يتّخذ بشريَّتنا ويبدِّلها ويسمو بها، وبطرق "إقامتنا البشرية".

سُكنى يسوع المسيح بيننا هي أولا علامة حبٍّ منه لنا. شاركنا حياتنا في كل شيء ما عدا الخطيئة (راجع عبرانيين ٤: ١٥). جاء "يصنع الخير ويشفي من كل مرض وعلة" (أعمال ١٠: ٣٨). دخل بيوتنا، وأكل على موائدنا. وشرب من خمرتنا. وتجوَّل في طرقاتنا. وبارك أطفالنا. وفرح في أعيادنا، وبكى موتانا. لم يبتعد، ولم يفرض المسافات بيننا وبينه، ولا أحب العزلة. طريقة حياته كانت شراكة ووحدة ومساهمة وحضور. ونحن المسيحيين تلاميذه لم نقتفِ آثاره. صحيح أنْ ليس لنا هنا مدينة باقية، وأننا نسير نحو مدينة المستقبل (عبرانيين ١٢: ١٤). ولكن صحيح أيضًا أن يسوع طلب منّا أن "نبقى في المدينة" (لوقا ٢٤: ٤٩) لنفتح فيها طرق الملكوت.

في هذه الليلة المقدسة، نحتفل بميلاد يسوع المسيح في بيت لحم، ونعلن مع الملائكة محبة الله لهذه الأرض، ولمدنها. ونريد أن نستجيب للدعوة الموجَّهة إلينا وهي أن نكون صانعي سلام، وأنبياءَ رجاء، وشهودًا مقتنعين وقادرين على الإقناع بضرورة المشاركة والحوار.

نريد أن نسكن هذه الأرض مع يسوع المسيح، فلا نهجرها. نريد أن نشارك في آلامها ومخاوفها وأحزانها وآمالها. نريد أن نسير معًا في طريق الخلاص، مستعدِّين لبذل كل جهد والتزام كلِّ مبادرة تجعل مدننا مزدهرة ومضيافة، حيث يقدر الجميع أن يجدوا بيتًا وعملًا وحياة كريمة ومكتفية. نطلب، في هذه الليلة، إلى الطفل الإلهي في بيت لحم وإلى والديه اللذين جاءا هنا يبحثان عن سكن ولم يجدا، نسألهم أن يساعدونا للبقاء في المدينة، وأن يكون حضورنا مثلهم حضور سلام في هذه الأرض. وبقاؤنا هنا ضرورة. مدننا من دون مسيحيين تزداد هَجرًا، ومسيحيونا من دون مدنهم قد يتيهون في طرق العالم.

نعرف ونعترف أن العائلة المقدسة وجدت رفضًا في هذه المدينة، والأبواب أُغلِقَت في وجهها، ثم عرفت قسوة هيرودس الملك وعنفه الأعمى. يقول إنجيل القديس يوحنا: "جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله" (يوحنا ١: ١١). من الممكن دائمًا أن لا نقبله نحن أيضًا الذين آمنّا به. جاء يسكن بيننا، وحضوره بيننا يكشف عن حالة التناقض (لوقا ٢: ٣٤) التي نحن فيها. ففي مدننا صراع واستبداد. وفي زمنه، مدينته التي أحبها هي أيضًا المدينة التي بكى عليها (لوقا ١٩: ٤٤)، وطريق النصر فيها انقلب بسرعة دربَ صليب، ودربَ آلام. مدن الناس يمكن أن تنقلبَ ساحاتِ حرب وأماكنَ صدام وظلم وعنف. تعليمه وحياته نفسها يقدمان لنا طرقًا أخرى بها نبني ونسكن مدننا. ليست طرق الاحتجاج العقيمة، ولا المعارضة العنيفة. في تعليمه وحياته يَعرِض علينا طريق الخدمة المتواضعة والفاعلة. نود أن نرى في ساحاتنا وفي بيوتنا ومدننا وقرانا شيئًا جديدًا. يا ليت الإنجيل المقدس، إنجيل يسوع المسيح، يغيِّر حياتنا ويمكِّنُنا من العيش معًا، ويبدِّل علاقاتنا وخياراتنا وحياتنا. نسأله هو أن يجعل كلمته تجد إصغاء في قلب من يمسك بالسلطة السياسية والاجتماعية. نود لو استطعنا ألّا نبكي بعدُ بسبب معاناتنا، وبسبب الظلم والفقر والآلام العديدة التي يعاني منها شعبنا. نسأله أن يلهم الجميع إرادة صالحة، وأن يعود هو ويسكن معنا في مدينتنا.

وهكذا نأمل أن تكون مدننا فعلًا مقدسة، ليس فقط بالذكريات الغالية التي تحملها أبنيتنا وحجارتنا، ولكن بالحياة التي نعيشها في مدننا. ولد كلمة الله بيننا وبدأ بولادته بناء ملكوت الله في أرضنا، ووعدنا بأن يتمِّمه في أورشليم السماوية. احتفالنا اليوم بعيد الميلاد ليس محض ذكرى، إنما هو إعلان رسمي أنّ ما حدث هنا بميلاد يسوع المسيح سوف يجد اكتماله وملئه عند مجيئه الثاني.

وفي انتظار مجيئه نبني مدننا. ونسأله ألا يسمح بأن تبقى مدننا مليئة بالمنازعات على السلطة كما في بابل قديمًا، بل تصبح مكان صلاة ولقاء لكل الشعوب، منذ الآن (أشعيا ٥٦: ٧). نريد أن نسهر معًا مع الرعاة، حتى يأتينا وعد الخلاص، ويَهدِيَ خُطانا على طريق الصلاح. نريد أن ننظر، مثل المجوس، إلى نجمة بيت لحم، ونستقبل نعمة إلهنا ومحبته، فنعود إلى مدننا "بطرق مختلفة" (متى ٢: ١٢)، بطرق جديدة تجدِّد طريقة سكنانا. نطلب في هذا المساء إلى المسيح الرب، المولود في بيت لحم، أن يمنحنا النعمة والقوة لنغيّر مدننا ونجعلها مدنًا في ملكوته. لذلك نريد أن نسير معه، على الطريق القديمة الجديدة، طريق الإيمان، والمحبة والرجاء، إلى أن تنحدر من السماء المدينة الجديدة، حيث يسكن الله معنا ونحن معه، إلى الأبد. آمين.

+ بييرباتيستا