موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٢٤ يونيو / حزيران ٢٠١٩
عتب على قدر المحبة

وفاء الخضراء :

أصبحت إثارة نقاش عميق وآمن وعقلانيّ، نحصد منه آراءً رصينة من “متناقشين” قادرين على احترام فروقاتهم واختلافاتهم، غايةً بعيدة المنال! فالخلاف والتناقضات في التصريح وفي السلوكيات أصبح عنيفاً، كما أصبحت حالة التنمر بل قل التوحش على وسائل التواصل الاجتماعي، سيدة الموقف.

شهدنا مؤخّراً، ومن خلال أحداث عدة تتالت علينا، تناقضات في الحكم على القيمة والمعنى لحدث ما، عكست في بعض حالاتها غياباً واضحاً لمرجعيات فكرية وأخلاقية للحكم على مشاهد وصفت “بالحساسة ثقافياً” والأكثر جدلا. فمثلاً: “المد” في إدانة الممثلين في عمل فني ما وذمهم وقدحهم، “والجزر”، بل الغياب، في النقد المسؤول للسياسات الهشة، وللممارسات الهاوية من قبل بعض شركات الإنتاج السينمائية التي تتاجر بالإثارة الهابطة لترويج “خيالاتها” المسطحة -والمشوهة أحياناً- عن الناس والأماكن والعلاقات، هو بلا شك، من أهم مؤشرات غياب هذه المرجعيات، ومؤشر على التناقض الأخلاقي.

ما يزيد الأمر تعقيداً هو الصراع المتصاعد ما بين المحافظين والعلمانيين. وأعتذر عن اختزال المجتمع في ثنائيات تفقده عُمقه وأطيافه المتنوعة.

لعلّ ما يقال صحيحاً حول وجود معالم واضحة ومقروءة لكل من الفكر، والنهج للموقفين الليبرالي والمحافظ، نستطيع من خلالها تخيل طبيعة كلّ من العلاقة والجدل بينهما، وشكل التيارات المنبثقة عنهما. إلا أن هناك مساحات واسعة لكلا التيارين – ومن خلال “تفاعلهما” الدائم مع السياقات المحيطة- يمكنّهما من إعادة تشكيل ذاتهما ليحاكيا الواقع المعيش. فالحالة المجتمعية الراهنة بما فيها من تناقض وتضارب صارخ في الآراء من جهة، والأدلجة المفرطة من جهة أخرى، ستؤثر حتماً على كيفيّة تشكّل هذين التيّارين وكيف سيؤدّيان أدوارهما في منطقتنا.

هناك فرصة تاريخية للصراع ما بين هذين التيارين ليكون بناء، وذلك إذا استطاع أن يهيئ لحالة مجتمعية حوارية حول جدليات عميقة في قضايا حساسة وشائكة. للأسف في سياقنا الحالي، هذا الصراع قد يكون في بعض صوره مريراً وحاقداً ويؤسس لمجتمع الكراهية بكل أدواته الشرسة للتجريم والتخطيء.

لماذا نختلف في قراءة مشهد ما أو حدث ما أو نص فني، ونختلف في كيفيّة التفاعل معه؟. هذه قضية فيها صعوبات عميقة بعمق فروقاتنا كأفراد وكمجتمعات. من تجربتي مع الطلبة تعلمت الكثير عن تنوعهم واختلافاتهم من خلال تنوع قراءاتهم للنصوص الأدبية. هناك من هو براجماتي ويريد من النص الأدبي أو الفنون بكل أشكالها أن تكون “هادفة” أو/و “ترفيهية” أو/و “تعليمية” أو/و”تنفيسية”، وهناك من يرى بأن النص مرآة تعكس صوت المؤلف أو صوت المجتمع بإرثه وبتاريخه الممتد، محاولاً إما أن يخلق تناغماً ما بين الإرث والعصر، وإمّا تنافراً أو مساحات جديدة فيما بينهما. وهناك فئة من الطلبة ترى أنّ الفن أتى من أجل كينونته وفنيته وجماليته وحسه وعبثيته وحريته بالتجريب وبالتفكيك وبالتشويه وبالبناء. وهناك من يحاول أن “يثقفن” النص ليسمح له أن يحاكي واقعه المعيش كقارئ ليتماهى النص مع مبادئه ومعتقداته ليؤشّر على قيمة القارئ “الوجودية”. وهناك الكثير المثير من هذا التنوع.

فهل الباليه والدحية والربابة والفيولونسيل تجريب إبداعي “شيئذاتي” غير معني بالمعنى، أم رغبة تعبيرية في الحياة والوجود؟! أم تفاوت سياقي في كيفيّة إنتاج هويتنا وإعادة إنتاج أنفسنا؟! وهل يمتلك فيلم يتناول أفكارا إرهابية مساحة كافية ليعبث بوعي المشاهد “للتطبيع مع الإرهاب “أم هي فرصة ليتفكر ويتأمل في الإرهاب وماهيته لتفكيكه، أم هي فرصة لترويج الإرهاب؟! وهل لفيلم ينادي بالفضيلة أن يكون رافعة لفضيلة مجتمع المشاهدين، أم هي مساحة للتشكيك في هذه الفضائل أم فرصة لتشييئ الفضيلة والاتّجار بها؟ لعلّها أسئلة جادة وبحاجة إلى نقاشات معمقة منبثقة من وعي إنساني ناضج. فلكلّ من الوعي الفردي والجمعي دور مهم في تأويل النص. وليتمكن هذا الوعي من التأويل “الأسلم” لا بد له أن ينبت ويترعرع في بيئة متكاملة من الحكمة والمنطق والروحانيات والفكر والوجدانيات والتسامح والتعاطف والتنوع الحليم.

قد يكون أحيانا “الحكم” على نص ما قاسياً، بل شرساً، عندما يتجرأ النص على أن يشكك بثوابت في الهوية والمعتقدات، وتلك أيضا قضية أخرى لا نستطيع الاستخفاف بها وتجاهل الوقوف عليها.

إنّ ما نحتاجه حالياً هو منابر آمنة للاختلاف والتوافق، وقصة تجمعنا وتحديات تبحث عن حلول حكيمة لئلا تضعنا بشكل شرس في مواجهة بعضنا البعض.

قد نختلف في التأويل، ونختلف في “الحكم” على قيمة وجوهر عمل فني ما، وهذا لا لبس فيه بل هو حق إنساني للتعبير والاختلاف والتشكك والجدل والمقاومة، ولكن التجريم والتهديد والقدح والذم، لا يبرر.

وإنِّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ/ فَإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ ؛ ذَهَبُوا.

(الغد الأردنية)