موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٤ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٤
"طريق الوحدة دون انقطاع" منذ لقاء بولس السادس وأثيناغوراس عام 1964
بقلم: بطريرك القدس للاتين

البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا :

 

ترجمة: موقع أبونا

 

إنّ الفرح الذي جلبته رحلة حج البابا بولس السادس، قبل ستين عامًا، إلى حياة مدينة القدس، والحداثة التي أشعلتها، يظل جزءًا من الحياة الحالية للمسيحيين في الأراضي المقدسة. في الحقيقة، وفيما يتعلق بالقدس، فإنّ المعنى العميق لتلك الأحداث، وخاصة اللقاء بين الأب الأقدس والبطريرك المسكوني أثيناغوراس، قد غيّر وجه الكنيسة وطبع مسيرتها حتى يومنا هذا.

 

عاد أسقف روما إلى القدس، والتي انطلق منها منذ ألفي عام. وفي رحلة الحج التي نقلته إلى الأماكن المقدّسة الرئيسية، واجه الجراح التي تركها التاريخ بشكل واضح في جغرافية الأماكن والناس في ذلك الوقت واليوم. لكنه أيضًا جمع احتضانًا قويًا من جميع السكان، الذين رحبوا به بفرح وحماس لا يصدقان، فأظهروا لرعاتهم، بشكل لا لبس فيه، الرغبة في عدم البقاء أسرى التاريخ الصعب لهذه الأرض، بل في الذهاب إلى أبعد من ذلك.

 

تُظهر أفلام ذلك الوقت دخول بولس السادس إلى المدينة المقدسة، وقد كاد أن يضيع بين  الجمهور المتحمس والمبتهج. في بعض الأحيان، تكون لفتات صغيرة، ربما عن غير قصد، يبحث عنها الكثيرون بفارغ الصبر، لتكون كافية لإطلاق الرغبة في اللقاء والسلام التي تشتعل في قلب كل شخص، لا سيما هنا في الأرض المقدسة، التي تتميز بالتوترات الأبدية والصراعات والانقسامات.

 

لقد كانت القدس المسيحية مجمدة –شبه معلقة– بين القوانين والأنظمة القديمة التي بدت وكأنها تشلّ الحياة المجتمعية، بدلاً من تنظيمها. وكان لزيارة البابا بولس السادس ميزة في كسر هذا الجدار، الذي بدا آنذاك متينًا للغاية، بين الوضع الراهن اي الستاتوكوو المتنوّع، والذي كثيرًا ما يستخدم بشكل خاطئ أكثر من كونه صوابًا، لتجنب التعامل مع بعضنا البعض. لقد كانت تلك الزيارة البسيطة كافية لإزالة قرون من الغبار عن علاقاتنا.

 

كان اللقاء مع بطريرك القسطنطينية المسكوني بلا شك الحدث الذي ميّز رحلة الحج تلك.

 

إنّ عودة بطرس بعد ألفي سنة إلى القدس، مهد الكنيسة الواحدة غير القابلة للتجزئة، لا يمكنها أن تتجاهل ذلك الجرح، الأعمق على الإطلاق، الذي طبع مسيرة الكنيسة طوال ألفية كاملة. وبالفعل، كانت عودة بطرس إلى القدس أيضًا بداية رحلة جديدة، لجميع المسيحيين، للتقارب وإعادة قراءة واسترداد تاريخهم، في الرغبة والحنين إلى الوحدة المفقودة.

 

ففي نهاية المطاف، فإن العودة والخروج من القدس يجلب دائمًا وبالضرورة تغييرًا عميقًا.

 

بالنسبة للمسيحي، القدس هي المكان الذي أعطى تجسيدًا ملموسًا للفداء، والذي غيّر معنى المغفرة والعدالة والحقيقة. ولا يمكن للمرء أن يأتي إلى القدس دون أن يتصالح مع هذه الحقائق، التي أكرر هنا، أنّها تكتسب ملموسية فريدة من نوعها.

 

ومنذ ذلك الحين، تغيّر الكثير في الحوار المسكوني. فاليوم، فإنّنا نعتبر مواقف الاحترام والصداقة بين الكنائس أمرًا مسلمًا به. ونحن مدينون لهما بذلك، للبابا والبطريرك المسكوني، ولشجاعتهما ورؤيتهما.

 

لقد أظهر البابا فرنسيس، من خلال رحلة الصلاة التي قام بها إلى الأراضي المقدسة عام 2014، ومن خلال اللقاء المتجدد مع البطريرك المسكوني برثلماوس، بشكل ملموس، إلى أي مدى وصلت الكنيسة في تلك السنوات الخمسين وما بعدها.

 

وفي عام 1964، عُقد الاجتماع على جبل الزيتون، وهو مكان مهم، ولكنه على أطراف مدينة القدس. أما في عام 2014، فقد حدث اللقاء في قلب القدس المسيحيّة، كنيسة القيامة، التي ليست المكان الذي يُحيي ذكرى موت المسيح وقيامته فحسب، إنما المكان الذي يُعتبر، سواء كان ذلك صوابًا أو خطأً، رمز انقساماتنا.

 

بالتأكيد، نحن الذين نعيش في القدس نعرف جيدًا كم لا تزال الرحلة طويلة، ومدى صعوبة البقاء والعيش معًا في بعض الأحيان، ولكن الحقيقة البسيطة المتمثلة في إمكانية عقد مثل هذا الحدث المهم في مكاننا المفضل هي علامة لا لبس فيها على الرحلة التي قمنا بها حتى يومنا هذا.

 

قبل ستين عامًا، كسر هذا العناق جدار الانقسام بين الكنيستين، ودشن حقبة جديدة في حياة الكنيسة. لقد جدّد العناق الذي تم بعد مرور خمسين عامًا زخم الفرح والوحدة في الروح الذي لا يستطيع أحد منا التنبؤ به الآن، ولكنه يحمل بالفعل ثمارًا وفيرة لحياة الكنيسة اليوم.

 

ونحن نرى هذا في ترميمات كنيسة القيامة، التي يتم تنفيذها معًا، وهي حقيقة تعتبر اليوم أمرًا عابرا ولكن لم يكن من الممكن تصورها إلا قبل بضع سنوات. إنّ اللقاءات والإعلانات والمبادرات المشتركة بين الكنائس اليوم تعتبر أمورًا عادية. إنّ المبادرات الرعوية المشتركة، في المدارس والرعايا، هي تعبير عن الرغبة في الأخوة التي لا تقتصر على عدد قليل فقط، بل تشمل المجتمع المسيحي المحلي بأكمله، بجماعاته المختلفة. ومثال آخر هو الدليل الرعوي للكنيسة الكاثوليكية، الذي يعطي مؤشرات عملية حول كيفية الاحتفال بالأسرار للعائلات المختلطة (التي تشكّل الغالبية العظمى)، مع احترام حساسية الجميع.

 

حتى اليوم، وربما أكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى رجال ونساء شجعان، قادرين على الرؤية، قادرين على رؤية ما هو أبعد من الألم الحالي، لتحرير قلوبنا المقهورة بمخاوف كثيرة جدًا، والذين، مثل بولس السادس وأثيناغوراس، مع كلماتهم وأفعالهم، عرفا كيف يظهرا لمسيحيي الأرض المقدسة اليوم طريق السلام الصعب والرائع.