موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٤ فبراير / شباط ٢٠١٣
سبب استقالة البابا بندكتس السادس عشر

ويليام فايهي - اليتيا :

 

يشعر العالم الكاثوليكي بالصدمة إلى حد كبير من جراء صدور رسالة استقالة البابا بندكتس السادس عشر. يفترض العالم العلماني الأسوأ – كلا، يرغب بالأسوأ، وبالتلميح يثير الشكوك حتى في أذهان المؤمنين.

 

سيلقي العالم العلماني نظرة سريعة على الرسالة القصيرة وسيفكر ملياً في السطر المتعلق بـ"عالم يخضع لعدة تغييرات سريعة وتهزه مسائل ذات صلة عميقة بحياة الإيمان". سينسج من هذه الكلمات المفككة حكاية وجودية من اليأس والفضيحة، وحكماً يدرك أنه لم يعد متصلاً بالواقع.

 

هذا بعيد تمام البعد عن الحقيقة.

 

إن استقالة بندكتس تتفق تماماً مع طبعه. إنها تقليدية – يستقي من تاريخنا وشريعتنا واقعاً وميزة لمنصب البابوية. يستطيع المرء – في ظروف معينة – وينبغي عليه أن يتخلى عن هذا المنصب.

 

تظهر استقالته مجدداً علامة ثابتة على أنه أب ومعلم. يعرف الأب أن دوره يقضي بتقديم المثال والتربية والانضباط ووضع نفسه جانباً في النهاية من أجل مصلحته الذاتية. لا تُمارس الخدمة البطرسية من أجل رجل أو أساقفة وكهنة، أو حتى من أجل الكاثوليك وحدهم. إنها خدمة ممارسة لجميع الباحثين عن الله ولجميع الذين تشملهم رحمة الله. إنه منصب متطلب.

 

على غرار كافة النصوص التي نشرها بندكتس، لا تتسم رسالة الاستقالة هذه بأي خلل أو ضعف أو فكرة مزيفة أو غموض. ليس هناك من كلمة واحدة خارجة عن مسارها. هي تصدر بمحبة الوالد ووضوح الأستاذ.

 

وحدها القراءة النزيهة لهذه الوثيقة ستؤدي إلى إظهار الامتنان العميق والتعاطف تجاه أب متألم يجب أن يفهم أن كل إجراء وقرار يتخذه "مهم جداً لحياة الكنيسة".

 

لا يستطيع أحد أن يشك أن هذا الأب الأقدس تأمل بعمق، وحسبما أتوقع مراراً، في القانون الرعوي للقديس غريغوريوس الكبير – الكتيب الذي صدر في القرن السادس من أجل الذين يتمتعون بأعلى سلطة روحية، ما سماه بندكتس وآخرون بـ ars artium ("فن الفنون"). يشكل معظم الكتاب تحذيراً من الأسباب الخاطئة للتشبث بالسلطة أو الاحتفاظ بها، ويليه موجز للفضائل المطلوبة لممارسة القيادة جيداً. وفي الكتاب الأول من القانون الرعوي، نجد هذا السطر الذي أعتقد أنه كانت له أصداء لبضع أسابيع في أفكار الأب الأقدس: "يجب أن يكون رجلاً لا يُحبط ضعفه الجسدي أهدافه". إن السدة البطرسية ليست أمراً روحياً يهمل الطبيعة البشرية. فهذه الخدمة المقدسة تخص شخصاً وإنما ينبغي على هذا الشخص أن يتمتع بالصفات التي تسمح له بممارستها بصعوباتها.

 

تميزت حبرية بندكتس السادس عشر بالتواضع. لقد حاول نزع الصفة الشخصية عن استخدام السلطة، حتى تلك السلطة الشخصية الفريدة، السدة البطرسية. مع ذلك، يجب أن نتذكر دوماً أن "شخص" المنصب البابوي هو القديس بطرس الذي يعمل مع خلفائه بشخص المسيح. إن البابوية هي سلطة معاشة وسلطة حياتية يجب أن تلبي احتياجات العصر. من الطبيعي أن نحب الأمور الواقعية التي نعرفها، ونحب شخصية بابواتنا. ويجب أن نبذل قصارى جهدنا لنقبل أن بندكتس كمعلم متواضع ومحبوب يعلم الآن تلاميذه درساً قاسياً وهو أنه لا ينبغي أبداً على المعلم أن يكون محور اهتمامنا ومحبتنا الأخيرين.

 

لقد أصبح عصرنا يركز بشكل مفرط على نموذج "قيادة" سطحي حقاً، نموذج أعمى ببريق الجاذبية و"الشخصية" الجميع عن مسألتي الواجب والمسؤولية. تعلمنا استقالة بندكتس مجدداً أن القيادة – وفيما تُمارس من قبل شخص – ليست متمحورة حول ذلك الشخص. لقد وضع بندكتس نصب أعيننا المعنى الروماني القديم لـ officium – الواجب، الوظيفة، المسؤولية. لطالما اعتبر تولي بندكتس للسدة البطرسية متردداً، وينشأ هذا التردد عن معرفة ذاتية واضحة وفهم معمق لتاريخ السلطة البابوية وهدفها.

 

إن الكلمات التي سننشرها في ما يلي مأخوذة من إحدى المقابلات العامة التي أجراها الأب الأقدس سنة 2008. تحدث عن القديس غريغوريوس الكبير وتردده في الجلوس على كرسي القديس بطرس، التردد الذي أفسح المجال للنعمة والصلاة والعمل:

 

إذ أدرك الحبر الأعظم الجديد مشيئة الله في ما كان قد حصل، أكب بسرعة وحماسة على العمل. من البداية، أظهر رؤية مستنيرة فريدة للواقع الذي كان يجب أن يتعامل معه، وقدرة استثنائية على العمل في مواجهة الشؤون الكنسية والمدنية، وتوازناً ثابتاً ومنتظماً في اتخاذ القرارات، الجريئة أحياناً، التي كان يفرضها عليه منصبه.

 

هذه الكلمات ليست مدونة بشكل نظري. إنها صادرة عن شفتي الأب الأقدس ومن باب الخبرة.

 

وإن الكلمات الختامية التي قالها بندكتس في مقابلة اليوم التالي هي أكثر تأثيراً. مجدداً، وفي حديثه عن القديس غريغوريوس وحبريته المنعزلة، اختتم قائلاً:

 

بقي غريغوريوس راهباً بسيطاً في قلبه، ولذلك كان معارضاً تماماً للألقاب العظيمة. أراد أن يكون – وبحسب تعبيره هو – servus servorum Dei (خادم خدام الله). هذه الجملة التي صاغها بنفسه لم تكن صيغة تقية على شفتيه فحسب، وإنما تعبيراً حقيقياً عن أسلوب عيشه وعمله. تأثر في الصميم بتواضع الله الذي جعل نفسه خادماً لنا في المسيح. فقد غسل أرجلنا الوسخة ولا يزال يفعل ذلك. لذلك، كان مقتنعاً أنه ينبغي على الأسقف بخاصة أن يقتدي بتواضع الله ويتبع المسيح على هذا النحو. كان يرغب في أن يعيش حقاً كراهب، وفي تواصل دائم مع كلمة الله، لكنه بسبب محبته لله عرف كيف يجعل نفسه خادماً للجميع في زمن مليء بالمحن والمعاناة. عرف كيف يجعل نفسه "خادم الخدام". ونظراً إلى أنه كان كذلك، يُعتبر عظيماً ويظهر لنا مقياس العظمة الحقيقية.

 

تنبع أسباب استقالة الأب الأقدس من شعور جليل بالواجب وإيمان مخلص بحقيقة ذلك الواجب. لقد بقي خلال حبريته أميناً ووفياً لدعوته كأب ومعلم. وإنه ينبغي على الأب والمعلم أن يتنحيا يومياً ليكونا وفيين لدعوتهما.

 

ليست البابوية مجرد شخص، ليست رجلاً عظيماً، وليست بالتأكيد إمارة مادية أو أرضية. إنها وظيفة أسقف روما، خليفة القديس بطرس. إنها مهمة مقدسة موكلة إلى الكنيسة جمعاء. إنها إدارة ثابتة عبر الزمن. وراء النائب، هناك مُلك المسيح والطبيعة الثابتة لكنيسته أمس واليوم وإلى الأبد.

 

استقال البابا بندكتس السادس عشر بنعمة الروح القدس. استقال قداسته لأنه يفهم متطلبات منصبه ويرغب بعزم ثابت في مساعدتنا على أن نفهم ذلك ونعمق إيماننا من خلال تذكره على حقيقته ورفع قلوبنا وأذهاننا إلى الله الأزلي وابنه، راعينا وربنا الأسمى، يسوع المسيح.