موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ١٠ فبراير / شباط ٢٠١٣
زيارة البطريرك الراعي الراعوية الى ابرشية دمشق المارونية

دمشق - وكالات :

في اطار زياراته الراعوية الى الابرشيات المارونية، وبمناسبة عيد مار مارون، وصل البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك الموارنة، الى دمشق مساء اليوم السبت 9 شباط 2013، حيث كان في استقباله في صالون الشرف على الحدود السورية مطران الموارنة سمير نصار وممثل بطريرك الروم الارثوذكس يوحنا الاول المطران لوقا خوري وعدد من الكهنة.

وزيارة البطريرك الراعي هي الأولى التي يقوم بها بطريرك ماروني لسوريا منذ استقلال لبنان في عام 1943.

ومن هناك توجّه غبطته الى مطرانية دمشق المارونية في باب توما حيث استقبله عدد كبير من الاساقفة يتقدمهم السفير البابوي في سوريا المطران ماريو زيناري وحشد من الكهنة والمؤمنين.

ووسط الاناشيد ونثر الورود دخل الكردينال الراعي الى كنيسة مار انطونيوس حيث احتفل بالذبيحة الالهية.

بعد الانجيل المقدس القى غبطته عظة جاء فيها:

1. شبَّهَ الربُّ يسوعُ موتَه وقيامتَه بحبّة الحنطة. هكذا عرَّف بنفسِه، عندما جاء بعضُ اليونانيّين يتوسّطون الرسلَ ليرَوه، يومَ دخولِه الأخير إلى أورشليم، قبلَ الآلام والموت بخمسة أيام. فبموتِه على جبل الجلجلة، وبقيامتِه في اليومِ الثالث، وُلدت الكنيسةُ والبشريةُ الجديدة. من أجلِ إدراكِ هذا السرِّ العظيم، شبَّهه "بحبة الحنطة، التي إن وقَعَتْ في الأرض وماتت، أتت بثمر كثير(يو12: 24)؛ وجعل من هذا التَّشبيهِ نهجاً في الحياة البشريّة عامّةً وفي الحياةِ المسيحيّة بخاصّة.

2. يسعدُنا أن نحتفلَ بعيدِ أبينا القديس مارون، معكم هنا في كنيسةِ المطرانيةِ المارونية في دمشق، ملبِّين دعوةَ سيادةِ أخينا المطران سمير نصّار، راعي الأبرشية، الذي أُحيِّيه مع كلِّ كهنةِ الأبرشية وأبنائِها وبناتِها. ويطيبُ لنا أن نُحيّي السَّادةَ المطارنةَ والكهنةَ والرهبانَ والراهباتِ وجميعَ المؤمنين والمؤمناتِ الحاضرينَ معنا. إنّها زيارةٌ خاطفة للأبرشية، لكنَّنا نحملُ في صلاتِنا أبرشيتَينا الأُخريَين، حلب واللاذقية، ونُحيِّي مطرانَيهما مع الكهنةِ والرهبانِ والراهباتِ والمؤمنين. ونهنِّئُكم بعيدِ أبينا القدِّيس مارون ملتمسين من الله بشفاعتِه أن يفيضَ عليكم كلَّ خيرٍ وبركةٍ ونعمة، وأن يُلهم ضمائرَ المسؤولين المحليِّين والإقليميِّين والدوليِّين، ويدفعَ بهم إلى العملِ على وضع حدٍّ لدوّامةِ العنفِ والحرب في سوريا العزيزة، وعلى إحلالِ السلامِ بالتفاهم والحوار حولَ المواضيعِ الخلافيّة.

3. نحنُ معكم في دمشق لنشاركَ غداً الأحد في حفلِ تنصيبِ غبطةِ البطريرك يوحنا العاشر، بطريركِ انطاكيه وسائرِ المشرقِ للروم الأرثوذكس، ويرافقُنا المطرانان بولس منجد الهاشم السفيرُ البابوي السابق في بلدان الخليج، وحنّا علوان نائبُنا البطريركي المشرفُ على الشؤونِ القانونيّة وعلى توزيعِ العدالة في محاكمِنا المارونيّة، والمسؤولون عن مكتبِنا الإعلامي في الكرسي البطريركي.

لقد أردْنا هذه المشاركة، تعبيراً عن تقديرِنا ومحبَّتِنا لغبطةِ البطريركِ الجديدِ وللكنيسة الأنطاكية الروم الارثوذكسية الشقيقة، وتأكيداً لروابطِ التّعاونِ الراعوي والوحدة المسكونيّة مع هذه الكنيسة ومع سائر كنائس الشَّرق الأوسط، حيث نحن مدعوّون كلُّنا، على تنوّعِنا، لبناءِ الشَّركةِ الروحيّة فيما بيننا ومع سائرِ مواطنينا، ولإداءِ الشهادةِ لمحبَّةِ المسيحِ والقيمِ الإنجيليّة، الروحية والأخلاقية والإنسانية، في مجتماعتِنا العربيّة. جئنا نصلِّي من أجلِ السلامِ في سوريا، ومن أجل الضحايا البريئة وتعزية أهلهم، ومن أجل عودة النازحين إلى ديارهم وأراضيهم.

4. نريدُ بهذه الزيارة إعلانَ قربِنا وتضامنِنا مع كل المتألمين، من جميع الطوائف، وبخاصّةٍ مع المسيحيِّين من كلِّ الكنائس، ومع أبنائِنا وبناتِنا الموارنة، في هذا الظَّرف الأليم من حياة سوريا الجريحة والمتألّمة، حيثُ العنفُ والحربُ والإرهاب، والقتلُ والتنكيلُ والتعذيبُ والتدميرُ والتهجير. من هنا من دمشق نقولُ معاً "كفى" لكلِّ الذين يمارسونَ كلَّ هذه المآسي! كفى للحربِ والعنف! كفى للقتلِ وتدميرِ البيوتِ والمعالمِ الحضاريّة! كفى تهجيراً للمواطنين الآمنين الأبرياء! كفى إذكاءً للحرب والدمار والقتل من أي اتجاه اتى!

فالإصلاحاتُ، وهي لازمة، لا تُفرضُ فرضاً من الخارج، بل تحصل من الداخلِ بالحوارِ والتفاهمِ والتعاون. هذا ما ندعو إليه مع كلِّ محبِّي السلام العادل والشامل والدائم، حيث يُعطى الجميعُ حقوقَهم، ويلتزمُ الجميعُ بواجباتِهم. وإن كان لا بدّ من دور للاسرة الدولية فليكن في هذا الاتجاه.

5. "حبّة الحنطة، إنْ وَقَعَتْ في الأرض وماتَتْ، أَتَتْ بثمرٍ كثير". سلكَ القدِّيس مارون نهجَ يسوع المسيح، المائتِ والقائمِ من الموت، نهجَ حبَّة الحنطة. عاش مارون، الكاهنُ الناسك، بينَ أنطاكيه وحلب، في منطقةِ قورش. قضى حياته مائتًا عن ذاتِه وعن العالم ومغرياتِه. فتكوكبت من حولِه جمهرةٌ من التلاميذ، الذين اقتفَوا نهجَه الروحي، وشكَّلوا بستاناً من الكرمات الروحية. عاش حياةً نسكيّةً في العراء على أنقاضِ هيكلٍ وثني، فراشُه الأرض وسقفُه السماء، في القسم الثاني من القرن الرابع وحتّى بدايةِ الخامس، وانتقل من غربةِ الدنيا إلى مجدِ السماء سنة 410.

كتب سيرةَ القديس مارون، العلاّمةُ تيودوريطس مطرانُ القورشيّة. ولئن لم يعايشْه، فقد عرفَه بشهادة تلاميذه الكثر الذين زيّنوا القورشيّة ناهجين نهجَه في الحياةِ النسكيّةِ والتقشّفِ والصلاة.

عاش مارونُ الكاهنُ الناسك في عبادةِ الله، تحتَ سقفِ السماء، ساهرًا وعابدًا. وكان عندما يشتدُّ البردُ والصقيع، يأوي تحت خيمةٍ من شعر الماعز، ويقيمُ قدّاسَه في المعبد الوثني الذي حوَّلَه هيكلاً لله. جسَّد نهجَ "حبّة الحنطة" التي تقعُ في الأرض وتموت"، بالصوم والصلوات الطويلة وليالي السهر وممارسةِ السجود والعبادة، وتلاوةِ صلاةِ الساعات في النهارِ والليل، والتأمّلاتِ المستغرقة في كمالات الله، وحبسِ الذاتِ في مكانٍ ضيّق، الذي لم يكنْ يخرج منه إلّا للعملِ في الأرض وزراعتِها، وإنهاكِ الجسد حتى إطفاءِ شهواتِه، والتقشفِ بلباسِ المسحِ من شعرِ الماعز، وحرمانِ الذاتِ من الجلوسِ والنومِ في ليالٍ كاملة. وفوقَ ذلك كانَ يُرشد المؤمنين الذين يقصدونه، مشدِّداً الضعفاءَ، ومعزِّياً الحزانى. ووهبَه اللهُ موهبةَ الشفاء، فطارَ صيته في تلك الأنحاءِ، وكطبيبٍ، دواؤه الصلاةُ وكلمةُ الإنجيل، كان يشفي من كلِّ عاهاتِ الجسد والنفس. هكذا وصفَه المطران تيودوريطس، مؤرّخُ حياتِه الأوّل. وكتبَ إليه صديقُه القدِّيس يوحنا فم الذهب، بطريركُ القسطنطينيّة، من منفاه طالباً صلاتَه لتعضده في عذاب المنفى.

6. بنتيجةِ هذا الموتِ الدائم عن الذات، وُلدت، كالثِّمار من حبَّةِ الحنطة، كوكبةٌ من التلاميذِ حول مارون، نهجوا نهجَه في حركةٍ روحيةٍ نسكية، حدَّدَها تيودوريطس "بفلسفةِ حياة العراء"، وجعلوا منها طريقةَ قداسةٍ على قاعدتَي الإيمانِ وحرية أبناءِ الله، متحرِّرين من كلِّ عبوديّات الدنيا. نذكرُ من بينِهم شهداءَ مدينةِ دمشق الطوباويّين الإخوة المسابكيِّين الثلاثة: فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل الذين استشهدوا مع آباءٍ فرنسيسكان وقُتلوا في الكنيسةِ أمامَ المذبح سنة 1860، والذين تُكرّم ذخائرُهم هنا في كنيسةِ المطرانية المارونية. سقطوا ضحايا إيمانِهم المسيحي بقولِهم للقتلةِ الذين كانوا يطالبون بجحدِ إيمانِهم: "نحنُ مسيحيّون ونريدُ أن نموتَ مسيحيين". ولقد رفعَهُم على مذابحِ الكنيسةِ طوباويِّين البابا بيوس الحادي عشر في 10 تشرين الأوّل سنة 1926.

7. تميَّزت المارونيّةُ منذ نشأتِها إلى اليوم بميزاتٍ ثلاث: الميزةُ الأولى عقائدية هي كاثوليكيتها بوجهَيها: الاتّحادُ الدائم بكرسي بطرس في روما، وانفتاحُها على الشموليةِ وجامعيةِ الكنيسة. ولقد ظلَّ الماروني الكاثوليكي الوحيد في الشرق طوالَ قرونٍ عديدة. والميزةُ الثانيةُ سياسيةٌ هي مطالبتُها الدائمة بوطن، ورفضُها الانتماءَ إلى الأمبراطوريات القائمة والمتتالية: البيزنطية والأموية والعباسية والعثمانية، حتى استقرَّت المارونيةُ في لبنان، وحقَّقت فيه حلمَها، وتجذّرت في الشَّرق العربي ومنه انتشرَت في كلِّ أرجاءِ العالم. والميزةُ الثالثة فكريةٌ هي بحثُها الدائمُ عن الحريةِ الشخصيةِ والجماعية بوجه ما تفرضُه المجموعاتُ الدينية أو العشائرية أو الوطنية على أتباعها[1].

8. لمناسبةِ الصومِ الكبير، الذي سنبدأه الاثنين المقبل، وجَّهْتُ رسالةً راعوية عنوانُها: "الصومُ الكبير: رِحلةُ عبورٍ نحو الفصح". إنّني أدعو فيها أبناءَ كنيستنا المارونية، إكليروساً وعلمانيّين، إلى الالتزامِ بفريضةِ الصومِ الأربعيني وروحانيته القائمةِ على ثلاثةٍ مترابطة ومتكاملة: الصوم والصلاة والصدقة، كأركانٍ للحياة المسيحية، المُهدَّدة اليوم بالروحِ الاستهلاكية والمادية، وبالجنوحِ إلى المتعةِ والروحِ المتعلمنة الظاهرةِ لدى البعض.

9. إنّ قداسةَ البابا بندكتوس السادس عشر يدعونا في مناسبةِ سنة الإيمان، التي افتتَحَها في تشرين الأوّل الماضي، للتعمّقِ في إيمانِنا المسيحي والسعي إلى اللقاءِ الشخصي بالله بواسطةِ ربِّنا وإلهِنا يسوع المسيح؛ وهو لقاءٌ يبدِّلُ نظرتَنا ويشفي نفوسَنا ويملأُ قلوبَنا محبةً وفرحاً، ويُرسلنا لبناءِ حضارةِ المحبةِ والحقيقةِ والسلام في مجتماعتِنا.

ويدعونا الأبُ الأقدس، بإرادةٍ رسولية أصدرَها في تشرين الثاني 2012، إلى تنظيم خدمة المحبة الاجتماعيّة على صعيدِ الرعايا والأبرشيات والمؤسَّسات، وهي خدمةٌ تنبعُ من صميمِ طبيعةِ الكنيسة، وتشكّلُ جوهرَ رسالتِنا المسيحيّة. وما أحوجَنا إليها في هذه الأيّامِ التي ترمينا في أزمةٍ إقتصاديةٍ ومعيشيةٍ خانقة!

9. يُملي علينا القديس مارون، في مناسبة عيدِه هذه السنة، الالتزامَ بالروحانيةِ المارونية القائمةِ على الصلاةِ والتأمّلِ والتجرّد، والمبنيّةِ على سرِّ التجسّدِ والتكريمِ للسيدة العذراء، والمُحصَّنةِ بكلامِ الله في الإنجيلِ وتعليم الكنيسة. ويُملي علينا الالتزامَ بالرسالةِ المارونية الرامية إلى نشرِ ثقافةِ الحريةِ المتحرِّرة من عبوديّاتِ الخطيئة والشرِّ والإيديولوجياتِ الأرضيّة، والإخلاصِ للوطن، والانفتاحِ على جميعِ الأديانِ والثقافات، والعيشِ معاً بالتكاملِ والتعاونِ والثقةِ المتبادلة. ويُملي علينا أخيراً الالتزامَ بنهجِ "حبّةِ الحنطة"، أعني التضحيةَ والموتَ عن الذات من أجلِ ولادةِ حياةٍ ومجتمعٍ ووطنٍ أفضل.

وإننّا، إذ نهنِّئكم جميعاً بعيدِ أبينا القدّيس مارون، نصلّي من أجلِ السلامِ في هذه المدينة، وفي كلِّ سوريا، وفي لبنان وبلدان الشَّرق الأوسط. ومع أبينا القديس مارون وتلاميذه القدِّيسين، نرفعُ نشيدَ المجدِ والتسبيحِ للآبِ والابنِ والروح القدس، الآنَ وإلى الأبد، آمين.