موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ١٨ مايو / أيار ٢٠١٨
رمضان آخر

رمزي الغزوي :

وفي عرف طفولتنا العظيم أن تشرب قليلاً من الماء سهواً في نهار رمضان الطويل، كان لا يضير الصيام بشيء!، ولهذا كنا نحبها فنتقنها جيداً لعبة التناسي هذه، فبعد أن كان العطش يحززنا ويشقق حلوقنا، كنا نهب نتوضأ أكثر من مرة للصلاة الواحدة، ونمعن كثيراً في المضمضة؛ علّ قطرة ماء تنزلق باردة في حلقومنا. حتى أن أحد الأشقياء أسرَّ لي، أنه لولا الوضوء لمات عطشاً من أول يوم في الصيام.

وبعيداً عن التناسي، فإن شعار (مش حتئدر تغمض عنيك)، هذا شعارهم لرمضان المتجدد، فكثيرون هم الذين يتآمرون عليه، ويحاولون أن يفرغوه من معناه وفحواه، فالطعام واللهو صارا لا يقرنان إلا به!، وكل المسلسلات والأفلام لا تنبجس ولا تتناسل إلا على عتباته، حتى صرنا لا نملك وقتاً لنعود فيه إلى أنفسنا، نخلو ونتصومع معها، فنتطهر من أدران زمن أوغل في التردي.

فالصحون اللاقطة الرابضة على ظهور البيوت، حلت مكان الصحون التي كان يتبادلها الجيران والأهل فيما بينهم، كنوع من التعاطف والمحبة، ولحلول البركة وطرحها في شهرهم الجليل، بل جعلتنا هذه الصحون اللقطة جزراً معزولة لا نعرف بعضنا أو نتزاور أو نتراحم، فمن قزم رمضان في نفوسنا؟!، ومن جعله مرتعاً للشركات تتنافس فيه على إبعادنا عن لذاذاته ومعناه.

فلو أغمضنا عيوننا؛ لعدنا إلى مدارج طفولتنا الرخية، نتوسل أمهاتنا بكثير من المسكنة والدموع أن يوقظننا للسحور، ونقسم أيماناً غليظة، أننا سنصوم ولو لحد الظهر، ولو أغمضنا عيوننا، سنتذكر صوت المسحراتي العجوز، إذ يجوب الحارات ضارباً على طبله الشجي، مترنماً بالتهاليل والتوحيدات، فيطرق الأبواب والشبابيك، وينادي على كل بيت باسم صاحبه: يا نايم وحد ربك.

وإن أغمضنا عيوننا، سنعود للوراء بمرح شفيف، وسننعم بلقاء أصدقائنا الأشقياء، فتعنُّ على بالنا لحظة كنا نتهامس ونخطط للهرب بعد الركعة الرابعة، من صلاة التراويح؛ لنلهو ونراكض ظلالنا الخافتة بين الأزقة المبتلة بالأضواء الناعسة.

وإن استطعنا وأغمضنا عيوننا المغناطيسية، سنتذكر رائحة الغروب، والشمس إذ تصير بطيئة زاحفة كسلحفاة، فنصعد إلى أسطح البيوت، نحثها ونرصد وداعها الأحمر، وننطر بفارغ الجوع صوت المؤذن طويل الروح، وسنذكر كيف أن شقيقنا النزق الصائم للمرة الأولى!، والمتعجل للحظة الإفطار، كيف يهمهم بشتائم لا تليق برمضان وبالمؤذن.

جميل هذا الرمضان إذ يعيدني كل عام طفلاً يجتر أحلامه الصغيرة، التي تبقيه دوماً على قيد الفرح، وكل عام وأنت بخير.

(الدستور الأردنية)