موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢١ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٢
رسالة بطريركية الأقباط الكاثوليك في عيد الميلاد المجيد

القاهرة - أبونا :

"وهذه علامة لكم" (لو 2/11)

ببركة صلوات غبطة أبينا البطريرك الكاردينال الأنبا أنطونيوس نجيب وباسمه، من الأنبا كيرلس وليم، المدبر البطريركي، إلى أخوتنا الآباء المطارنة والأساقفة والقمامصة والكهنة والرهبان وسائر أبناء الكنيسة القبطية الكاثوليكية، السلام والنعمة.

أعلن الملاك للرعاة البشرى السارة "لا تخافوا! ها أنا أبشركم بخبر عظيم يفرح له جميع الشعب: ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. واليكم هذه العلامة: تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود" (لو2/ 10-11). والكنيسة تسمعنا هذه البشرى بعينها، اليوم، إذ أنها أعلنت لجميع الأجيال على مر الدهور.

هل هناك شيء مجيد أو خارق العادة أو استثنائي في تلك العلامة، التي أعطاها الملاك للرعاة؟ كلا! فأنهم سيجدون طفلاً مقمطاً، يحتاج، ككل الأطفال، إلى عناية أمه، طفلاً مولوداً في حظيرة، وليس على مهد وثير بل في مذود.

وهذه هي علامة الله: الطفل في احتياجه للعون وفي فقره المدقع، ولسوف يتمكن الرعاة، فقط من خلال القلب النقي، أن يروا في هذا الطفل تحقيق وعد أشعيا، الذي قال، قبل حوالى 700 سنة من ذلك اليوم، "ولد لنا ولد، أعطى لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه" (اش9/5).

ونحن أيضاً، اليوم، مدعوون من خلال مقطع الإنجيل الذي تلي على مسامعنا، أن نسير، بالقلب النقي، لملاقاة الطفل الموضوع في المذود. إن ملاك الرب، الذي بشر الرعاة بهذا الخبر العظيم، يبشرنا نحن أيضاً به، في هذه الليلة، وكما دعاهم يدعونا نحن أيضاً.

علامة البساطة والتواضع:

علامة الله هي البساطة، علامة الله هي الطفل، علامة الله هي أن يصبح صغيراً من أجلنا. هذه هي طريقته في الملك، فهو لا يأتي بالعزة والعظمة الخارجية، بل يأتي كطفل أعزل ومحتاج إلى عوننا. لا يريد أن يسحقنا بقوته، بل أن ينزع منا الخوف أمام عظمته. إنه يطلب محبتنا، ولهذا يصبح طفلاً، لا يريد منا شيئاً آخر سوى محبتنا، التي عن طريقها نقدر أن ندخل، ببساطة القلب، في أفكاره وإرادته ومشاعره. يجدر بنا إذاً أن نتعلم أن نعيش معه، وأن نمارس على مثاله تواضع التضحية، التي تشكل عنصراً جوهرياً من المحبة. فقد صار الله صغيراً، لنستطيع أن نفهمه ونتقبله ونحبه.

لقد جعل الله كلمته مختصرة:

توقف آباء الكنيسة عند كلمة قالها أشعيا، واستشهد بها القديس بولس، تبين كيف أن سبل الله الجديدة إنما كانت قد سبق إعلانها في العهد القديم، فجاء نص الآباء بهذه الصيغة: "لقد جعل الرب كلمته مختصرة، لقد أوجزها " (راجع اش 10/22-33 ، رو 9/28). وقد فسر الآباء هذه الآية على شكلين:

الشكل الأول: الابن نفسه هو الكلمة، اللوغوس. وقد صار الكلمة الأزلي صغيراً، لدرجة انه وضع في مذود. أصبح الكلمة طفلاً حتى نتمكن من استيعابه. وهكذا يعلمنا الله محبة الصغار. يعلمنا أن نحب الضعفاء. ويعلمنا بهذا الشكل احترام الأطفال، فان طفل بيت لحم يوجه أنظارنا نحو الأطفال المجبرين على التسول، نحو الأطفال الذين يعانون البؤس والجوع، نحو الأطفال الذين لم يختبروا الحب. وفي جميع هؤلاء الأطفال، نجد طفل بيت لحم، الذي يضطرنا إلى اختيار، إلى تحيز، أعني أن ننحاز إلى الله الذي أصبح صغيراً. فلنصل، هذه الليلة، لكي يلمس حب الله المتألق جميع أولئك الأطفال بلطف، ولنطلب منه تعالى أن يساعدنا، لكي نقوم بواجبنا، حتى تحترم كرامة الأطفال، فليشرق على الجميع نور المحبة، التي يحتاجها الإنسان أكثر من كل الأمور المادية الضرورية للعيش.

الشكل الثاني: رأى الآباء "أن الله قد جعل كلمته مختصرة". فمع مر العصور، أصبحت الكلمة، التي أراد الله أن يمنحنا عبر أسفار الكتاب المقدس، طويلة ومعقدة ليس فقط للبسطاء والأميين، بل أيضاً وبشكل أكبر، لدارسي الكتب المقدسة والمثقفين. فقد اختصر يسوع الكلمة، وفتح عيوننا على بساطتها ووحدتها، عندما قال أن كل ما تعلمه الشريعة والأنبياء يتلخص في هذه الكلمة "أحبب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل فكرك، وأحبب قريبك كنفسك" (مت22/37). هذا هو كل شيء: فعل الإيمان يختصر في فعل الحب الفريد، الذي يضم الله والبشر.

تساؤل: ربما يتساءل البعض، كيف يمكنا أن نحب الله من كل فكرنا ونحن لا نكاد أن ندركه بقوانا العقلية؟ كيف يمكننا أن نحبه بكل قلبنا وبكل نفسنا، بينما قلبنا يلمحه من بعيد، ويشعر بالكثير من التناقضات التي تحجب وجهه عنا؟

الإجابة: هنا يلتقي الشكلان اللذان "اختصر" فيهما الله كلمته. فهو ليس بعيداً ولا مجهولاً، وليس من المستحيل على قلبنا البلوغ إليه، فقد صار طفلاً من أجلنا، ومحا بذلك كل إبهام. لقد أصبح قريباً، وجدد صورة الإنسان، التي غالبا ما تبدو لنا غير محبوبة. لقد أصبح الله عطية لأجلنا ووهب نفسه لنا. لقد كرّس وقتاً لأجلنا. إنه وهو الأزلي المتعالي عن الزمان، جذب زماننا إلى العلاء بالقرب منه. وقد أصبح الميلاد عيد الهبات والعطايا، لكي نقتدي نحن بالله الذي وهب نفسه لأجلنا. فلندع هذا الحدث يلمس قلوبنا ونفوسنا وأفكارنا ومع الهدايا، التي نقدمها والتي نتلقاها، ينبغي ألا ننسى العطية الحقيقية: أن نقدّم لبعضنا شيئاً من ذواتنا، بعضاً من وقتنا، فيولد فينا الفرح، ونحتفل حقاً بالعيد.

وإذ نقيم، في هذه الأيام، العديد من الولائم فلتتذكر كلمة الرب: "إذا صنعت وليمة لا تدع الذي يدعونك بدورهم، بل أدع الذين لا يدعوهم أحد والذين لا يمكنهم أن يدعوك بدورهم" (لو14/12) بمعنى انه ينبغي أن نقدم الهدايا ليس فقط لمن نقبل منهم، إنما للذين لا يتلقون شيئاً من أحد، ولا يمكنهم أن يقدموا شيئاً لأحد.

شكل ثالث: هنا يظهر معنى ثالث للجملة القائلة "بأن الكلمة صار مختصراً" وصغيراً. لقد قيل للرعاة أنهم سيجدون طفلاً موضوعاً في مذود للحيوانات، الذين كانوا سكان الإسطبل الحقيقيين. ومن خلال قراءة نص أشعيا 1/3، استخلص آباء الكنيسة أن في الإسطبل كان هناك ثور وحمار، وفى الوقت نفسه شرحوا النص على أن ذلك يرمز إلى اليهود والوثنيين – أعني إلى البشرية جمعاء – الذين يحتاجون، كل على طريقته، مخلصاً. ذلك الإله الذي صار طفلاً، يحتاج إلى الخبز، إلى ثمر الأرض وثمر تعبه. ولكنه لا يعيش بالخبز وحده، بل يحتاج إلى قوت لنفسه، يحتاج إلى معنى يملأ حياته. وهكذا بالنسبة للآباء أصبح مذود الحيوانات رمزاً للمذبح، الذي عليه يوضع الخبز، الذي هو المسيح نفسه، غذاء قلوبنا الحقيقي. ونرى مرة أخرى كيف أصبح صغيراً: فتحت شكل القربان المتواضع في كسرة الخبز يهبنا الرب ذاته.

كل هذا تتضمنه العلامة التي أعطيت للرعاة، والتي تعطى لنا أيضاً، الطفل الذي فيه صار الله صغيراً من أجلنا. فلنطلب من الرب أن يهبنا النعمة للنظر، في هذه الليلة، إلى المغارة ببساطة الرعاة، لكي ننال الفرح الذي حملوه هم إلى بيوتهم (لو2/20). فلنطلب منه أن يمنحنا التواضع والإيمان، اللذين نظر بهما يوسف إلى الطفل، الذي حملته مريم من الروح القدس. فلنطلب منه أن يهبنا أن ننظر إلى الطفل بتلك المحبة، التي بها نظرت إليه مريم. ولنصل لكي يغيرنا ذلك النور عينه، الذي أنار الرعاة، ولكي يتحقق في كل العالم ما ترنم به الملائكة في تلك الليلة "المجد لله في العلى وعلى الأرض للناس الحائرين رضاه".

خاتمة

إننا اليوم، متحدين مع قداسة الحبر الأعظم البابا بندكتوس السادس عشر، ومع جميع إخوتنا الذين يحتفلون معنا بهذا العيد، نرفع الصلاة الحارة، لكي يحل السلام في كل ربوع العالم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، نصلي من أجل بلادنا الحبيبة مصر، لكي تنعم بالاستقرار والرخاء، نصلي من أجل السيد رئيس الجمهورية وكل من يعاونه في السهر على خدمة أبناء الوطن، لكي تهدأ التوترات، ويعم التآخي، ويعمل الجميع على تغليب المصلحة العامة على المصالح الشخصية والفئوية، كما نصلي، من أجل كافة الكنائس وسائر أبنائها.

ومع الكنيسة الجامعة نعيش سنة الإيمان، في الذكرى الخمسين للمجمع الفاتيكاني الثاني والعشرين لصدور كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، ونتجاوب مع دعوة الكنيسة، لكي نحاول، في هذه السنة، إعادة اكتشاف فرح الإيمان بحماس، عبر اللقاء مع شخص يسوع المسيح، من خلال المواظبة على قراءة كلمة الله وتأملها وجعلها تتغلغل في أعماقنا، فتصبح المحرك لأقوالنا وأفعالنا، فنصبح شهوداً لحب الله للجميع.

وكل عام وأنتم بخير

+ الأنبا كيرلس وليم،
مطران أسيوط للأقباط الكاثوليك
المدبر البطريركي