موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ ابريل / نيسان ٢٠٢٠
رسالة النائب الرسولي للاتين في سورية بمناسبة عيد الفصح 2020
المطران جورج أبو خازن،  النائب الرسولي للاتين في سورية

المطران جورج أبو خازن، النائب الرسولي للاتين في سورية

المطران جورج أبو خازن :

 

إذهبوا في الأرض كلّها

 

إنّ صوت الربّ يعلن في هذه الأيّام ما أعلنه للرسل بعد قيامته: «فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم... وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به» (متى 28: 19-20). والقدّيس بولس يرتعد ويقول: «الويل لي إن لم أبشِّر» (1كورنثُس9: 16). فعالمنا اليوم هو أحوج من أيّ وقتٍ مضى إلى إعلان البشارة.

 

ولكن، أيّ بشارة علينا أن نعلِن ولمَن. هوذا السؤال الجوهريّ الذي أحبّ أن أعرضه عليكم في رسالتي الرعائيّة هذه.

 

لقد أتى يسوع ليعلن للعالم بشارة الملكوت. والملكوت في تعاليمه هو مسار نموّ. إنّه زرع ينمو (متى 13: 3-8)، وحبّة خردل تصبح شجيرة (متى 13: 31-32)، ووزنة يتمّ استثمارها (لو 19: 11-26). وكما هو حال أيّ نموّ، هناك انحراف لا بدّ من حدوثه، ويجب تقضيبه كي تعطي الكرمة ثمرًا وفيرًا (يوحنا 15: 2).

 

إنّ أوّل نموٍّ أتمنّاه بنعمة القيامة هو نموّ الفكر الإيماني. حين مات يسوع على الصليب شعر التلاميذ بالاحباط، على الرغم من كلّ ما قاله لهم مسبقًا عن آلامه وموته. وها هو يظهر لتلميذَي عمّاوس ويشرح لهما الكتب. فبدآا ينظران إلى الأمور بطريقةٍ أخرى، ويفكّران بطريقةٍ أخرى.

 

واليوم، نجد في وسائل التواصل الاجتماعيّ أخبارًا كثيرة متناقضة. لا أقول إنّ ناشريها كذّابون، بل إنّها تعرض وجهات نظر يمكن أن تكون ضالّة بل مضلّلة. ولعلّ أشدّها ضررًا هي تلك التي تتستّر بالإيمان، وتنشر أخبارًا مفخّخة، ظاهرها جذّاب ورائع، ولكنّ لغمًا كامنًا في داخلها يستطيع أن يدمّر كلّ مَن يمسّه.

 

أخبار قداسةٍ خرافيّة، معجزاتٍ تتنافى مع جوهر الإيمان، ظهورات وظواهر معجزيّة، رؤى وإلهامات، إلخ. والقدّيس بولس يصف ناشري هذا النوع من الأضاليل بقوله: «لأَنَّ هؤُلاءِ القَومَ رُسُلٌ كَذَّابون وعَمَلَةٌ مُخادِعون يَتَزَيَّونَ بِزِيِّ رُسُلِ المسيح. ولا عَجَب فالشَّيطانُ نَفْسُه يَتَزَيَّا بِزِيِّ مَلاكِ النُّور، فلَيسَ بِغَريبٍ أَن يَتزَيَّا خَدَمُه بِزِيِّ خَدَمِ البِرّ» (2 كورنثُس 11: 13-15).

 

أيّها الإخوة الأحبّاء، إنّ موجة تشويه الكنيسة شديدة في أيّامنا. فهي تنشر أخبارًا كاذبة، وتنسب عباراتٍ لرجال الكنيسة كالبابا لم يقولوها أبدًا، أو لم يقولوها بهذا المعنى. ومواجهة هذه الموجة تتمّ بالنموّ في ثلاث مستويات: النموّ في الإيمان بالتأمّل والصلاة، النموّ في فهم المواضيع الإيمانيّة من مصادرها الموثوقة، النموّ في نهج البحث العلمي الذي يفتّش عن صحّةكلّ ما سمعه. نموّ «يختبر كلّ شيء» (تسالونيكي 5: 21). النموّ الآخر الذي أتمنّاه لكم في زمن القيامة هو النموّ في العلاقات الاجتماعيّة. فعالمنا يتغيّر، والعلاقات الاجتماعيّة تتغيّر معه.

 

لقد تكلّمتُ في رسالة الميلاد 2018 على النواحي السلبيّة لوسائل التواصل الاجتماعيّ، وكيف أنّها تؤثّر في اللقاءات الحسّيّة بين الأفراد. واليوم أريد أن أطرق الموضوع نفسه بطريقةٍ إيجابيّة. فوسائل التواصل كالحقل. فيه الزرع الجيّد وفيه الزؤان (متى13: 24-30). إنّ وسائل التواصل أدّت إلى تقاربٍ بين أبناء مختلف الثقافات والأديان والمذاهب. كلّ واحدٍ يعبّر فيها عن رأيه بحرّيّة. وقد راعتني كمّيّة الأحقاد والأفكار الأصوليّة المعشّشة في عددٍ لا بأس به من مسيحيّي بلدنا. راعني تمتّع بعض مَن يقولوا إنّهم مسيحيّون بكلّ ما يحقِّر الآخر ويهينه. أشخاص كثيرون يواظبون على الصلاة وحضور القدّاس، ولكنّ قلوبهم خالية من محبّة المسيح. والأصعب من ذلك هي أنّهم يُنكِرون خلوّ قلوبهم من المحبّة والرحمة، ويتّهمون غيرهم بذلك.

 

إنّ هؤلاء يحتاجون إلى أن يقوموا من هوّة الموت، من جحيم التعصّب الغريب عن الإيمان المسيحيّ ولكنّه حاضر في القلوب وبشدّة. إنّهم يحتاجون إلى استقبال نور القيامة، نور الخلاص والمحبّة الشاملة. إنّهم يحتاجون إلى عمليّة تقضيبٍ جادّة تنزع عنهم كلّ ما يعيق ثمر الروح، أي كلّ ما يعيق «اللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والوَداعَة» (غلاطية5: 22). علينا أن ننمو في علاقاتنا بالآخرين المختلفين، فلا نعتبرهم تهديدًا بل غنًى، لأنّ الروح يعطي كلّ واحدٍ شيئًا مختلفًا. الروح القدس لا يكمن في التماثل بل في التنوّع. ورسالتنا التي علينا أن ننشرها هي احترام التنوّع. عندما جرّبت الحيّة الإنسان الأوّل، أسقطته في فخّ رفض الاختلاف: لقد منعكما الله أن تأكلا من هذه الشجرة كي لا تصيرا مثله (تك 3: 5). علينا أن ننمو في الحوار مع المختلفين. أعرف أنّ كلمة «حوار» صارت مستهلكة، وتوحي بالرسميّات التي لا تعبّر عن المواقف الداخليّة الحقيقيّة. لذلك يحدّد البابا معناها ويقول: «في هذا العصر المقلق، الحوار بين الأديان ضروريّ. [...] في الظروف الحاليّة، تقع على عاتق القادة الدينيّين مسؤوليّة خاصّة لتنشئة مؤمنيهم في روح احترام قناعات الّذين ينتمون إلى تقاليد دينيّة أخرى. فمحاولات تبرير الأفعال الإجراميّة بشعاراتٍ دينيّة غير مقبولة إطلاقًا. ما من جريمةٍ يمكن ارتكابها باسم الله» (الإعلان المشترك في أثناء لقاء البابا بالبطريرك كيرلُّس، بطريرك موسكو وكلّ الأراضي الروسيّة، بكوبا في السنة 2016، البند 13).

 

«يجب أن يتربّى أولادنا على التحاور منذ المرحلة الابتدائيّة... نحن نعلّم في مدارسنا الرياضيّات، والآداب، والفيزياء، والكيمياء، ولكن هل نعلّم الحوار؟ [الحوار] هو: "أنا أتكلّم وأنت تصغي. إن لم تفهم اسأل فأجيب". يمكننا القول إنّ هذا بداية لمسارٍ له أفق بعيد» (كتاب: جسور لا أسوار، ص. 97). «إنّ ثقافة الحوار تتطلّب تعلّمًا صحيحًا وزهدًا يساعدانا على الاعتراف بالآخر كمحادثٍ شرعيّ؛ ويسمحا لنا بأن ننظر إلى الغريب، والمهاجر، والمنتمي إلى  ثقافةٍ أخرى، على أنّه شخص يجب الإصغاء إليه، واعتباره وتقديره» (خطاب البابا فرنسيس في أثناء منحه جائزة شارلمان، 6 أيّار 2016).

 

في الختام، أتمنّى للجميع قيامةً حقيقيّة، وحياةً جديدة مع المسيح، ونموًّا في الروح القدس، وعلاقةً حميميّة بالآب، لنكون أعضاء فاعلين في مجتمعاتنا لا منفعلين، وكل عام وأنتم بخير.

 

المسيح قام... حقًّا قام.