موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٧ سبتمبر / أيلول ٢٠١٩
د. شارلي يعقوب أبو سعدى يكتب: الفريسيون الجدد ومستقبل الكنيسة

د. شارلي يعقوب أبو سعدى :

إن الصعوبات والتحديات والاضطهادات المختلفة التي واجهت وتواجه كنائسنا في الشرق الأوسط وعلى مر التاريخ قد جعلت الكثيرين منَّا "فريسيين جددًا". نعيش نحن في فترة احتلال واستضعاف وحاجة إلى دفاع وإلى تجديد في حياتنا. والذي يشعر بالضعف والخضوع والخوف يتقوقع على ذاته خوفاً من الاندثار والانقراض. وإحدى استراتيجيات البقاء هو التشدد والمحافظة بكل قوة على العادات والتقاليد وإلايمان المعاش عن طريق وضع أسوار عالية وهمية وغير مرئية حول الكنيسة.

غير أن المغالاة في التشدد يجلب الخمول الكامل للكنيسة التي يجب عليها أن تحمل رسالتها في المجتمع في جميع الظروف الصعبة والسهلة، والحرب والسلام، ومواكبة التطورات المختلفة في داخل المجتمع. فالكنيسة حاملة رسالة ويجب أن تسمع صوتها وترشد وتهدي، وهي جزء من المجتمع التي تحمل رسالتها فيه وإليه. فإذا تطور المجتمع أو تعرض لأي ظروف صعبة فلا بد للكنيسة من أن تتطور وترافق الناس في جميع مجالات حياتهم.

إذا تطورت الظروف والأحوال، العقيدة الدينية طبعًا لا تتبدل، والكنيسة اليوم، برؤسائها ومؤمنيها، يجب أن تسمح للروح القدس بأن يعمل فيها، بأن يغيّرنا ويطور عقلياتنا. فكما ألهم الروح القدس آباء المجامع المسكونية الأولى فهو نفسه موجود اليوم ولم يتغير. يستطيع أن يعمل فينا اليوم ما كان يعمل في القديسين العظماء الذين أقروا الإيمان القويم في القرون الأولى، وطوروا الكنيسة لتواكب العصر المعاش آنذاك.

نصادف في كنائسنا اليوم بعضٌ من الفريسيين الجدد الذين يعتبرون أنفسهم المدافعين في الخط الأمامي عن الإيمان والكنيسة ولكن بالطريقة الخاطئة، إذ يتناسون البر والمحبة والاحترام والرحمة، ويرفضون التنوع الكنسي الذي هو غنى لنا جميعاً، ويدينون المختلف عنهم ويصدرون أحكامهم على أساس أنهم وحدهم المميزون عند الله.

واجه يسوع المسيح الفريسيين في زمنه. كانوا فئة متنفذة في المجتمع جعلوا من أنفسهم مدافعين عن الدين وعن الشعب في مواجهة الاحتلال الروماني. وجاء في الإنجيل أنهم متكبرون، يحتقرون غيرهم، ومعارضون أشداء لكل ما يأتي به يسوع المسيح من جديد. أمّا اليوم فالبعض من حولنا يعتبر نفسه محامياً عن الكنيسة وحتى عن الله. وقد نقع جميعًا في ما وقع فيه الفريسي الذي ذكره الإنجيلي في صلاته في الهيكل (لوقا ١٨: ١٠...) من البر الظاهري والافتخار بالذات واحتقار الناس وخصوصا المختلفين عنا. ومن جهة أخرى، فقد نغرق في حب المال والجاه والكبرياء.

كان الفريسيون منفصلين عن عامة الناس "الخطأة"، لأنهم كانوا يعتبرون أنفسهم من أفضل المفسرين للكتاب المقدس، فكانوا معروفين بالتشدد في تفسير الشريعة. كانوا يتمسكون بحرفية الناموس في التفسير والتشدد في حفظ التقليد. ففي إنجيل متى نقرأ كيف أن الفريسيين سألوا يسوع المسيح: "لم يخالف تلاميذك سُنة الشيوخ فهم لا يغسلون أيديهم عند تناول الطعام" (متى 15، 2). أجابهم السيد المسيح: "إن لم يزد بركم على بر الكتبة والفريسيين، لا تدخلوا ملكوت السموات" (متى 5، 20). يطلب هنا منا يسوع المسيح أن نكون صالحين وألا يكون صلاحنا محض مراءاة. إن البر الذي ينادي به المسيح هو الخير والصلاح في النفس وهو الذي يراه الله وحده "في الخفية"، ويجازيه (متى ٦:٦).

تحدى يسوع المسيح الفريسيين ووبخهم على عبادتهم الزائفةً: "وأنتم لماذا تخالفون وصية الله من أجل تقليدكم؟" (متى 15، 3). يعتبر موقف يسوع المسيح من الفريسيين هو نفس موقفه من أي إنسان خاطئ. فقد اعتبر تدينهم تدينًا زائفًا وطلب منهم أن يتوبوا ويهتموا بالجوهر لا بالقشور.

قال السيد المسيح: "من ثمارهم تعرفونهم (متى 7، 20)". وأيضاً: "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إذا أحب بعضكم بعضا (يوحنا 13، 35)"، وأضاف: "أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً (يوحنا 15، 17)". إن المحبة التي ينادي بها الرب هي محبة تتخطى الحواجزالكنسية والاجتماعية والعنصرية والطائفية ( لوقا 14، 13). لقد أمرنا السيد المسيح بأن نحب حتى أعداءنا (متى 5، 44). فكيف لي أن أكون مسيحيا مؤمنا وأنا لا احترم أو أحب الآخر والمختلف عني؟

لا مكان اليوم في الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية لأناس يدعون المسيحية ويتمسكون تمسكا غير عاقل بالحرف ويهملون الرحمة والمحبة. قال بولس الرسول "إن الحرف يميت والروح يُحيي (2 كورنثوس 3، 6)".