موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٤ سبتمبر / أيلول ٢٠١٩
دقة أقوال السيد المسيح في الإنجيل المقدس

الأب د. بيتر مدروس :

يخطر الموضوع على بال المؤمن المعاصر وهو يتصوّر أنّ "لا مسجّلات ولا فيديوهات" كانت في زمن السيّد المسيح ولا سائر الأنبياء الموحى إليهم. وهنا تظهر مرّة أخرى عواقب تضخيم الجسد وتصغير الروح، وتكبير الإنسان وحاشى- التّقليل من قدر الطّبيعة والوحي الإلهيّين. ولكنّ الّذي يدقّ الباب يسمع الجواب. ويُفاجأ المشكّك أو الملحد أو المؤمن المحتار من الدّقّة التي لا نهاية لها في نقل أقوال السيّد المسيح في الإنجيل الطّاهر. ولسنا نخوض هنا إلاّ هذا الموضوع.

"كما ترتفع السّماء عن الأرض، هكذا ترتفع..."

يقول الرب: "كما تسمو السّماوات (في الجمع، وفي العبرية في صيغة المثنّى شمايم) على الأرض، هكذا تسمو أفكاري على أفكاركم وطُرُقي على طرقكم". يعني بالعربيّة ليس لا مسجّل ولا فيديو ولا "يوتيوب" أكثر فعالية من كلمة الوحي ومصداقيّة. وقد أثبت الواقع حتّى إمكانيّة التلاعب والدبلجة في الصور والأصوات! "أمّا كلمة الله فأمينة إلى الأبد"، أي – حسب الأصل الكنعاني ل "أمن"- تعني آمنة ثابتة وطيدة: "وصِدق الرب يدوم عبر الأجيال". هذا ما نقوله للمؤمن. وقد لا يكتفي بذلك وهو يطلب "عبادة عقليّة" ولسان حاله يهتف: " أريد أن أفهم لكي أومن، أريد أن أومن لكي أفهم". ولابأس!

عند الرسل أي الحواريّين والتلاميذ الأوّلين:

1- ذاكرة العقل والقلب!

إنّ التّفلسف على الإنجيل المقدّس، خصوصًا عند قوم كان يجب أن يدافعوا عن الإيمان كما حمله القديس إغناطيوس ده لويولا الباسك الإسبانيّ، يأتي من قِبَل الادّعاء والغوغائيّة بإعطاء انطباع من "الانفتاح والأريحيّة والإبداع"، مع الجهل لأساسيّات علوم الإنجيل الطّاهر وأمورها البديهيّة التي قد يتجاهلها المتكلّم. لم يكن لا المسيح ولا الرسل حجارة بل أناسًا تفعمهم الحياة ويزيّنهم النّطق والمنطق وتجيش في قلوبهم المشاعر والعواطف وتبارى في عقولهم الأفكار. وما استطاع الجنود إلقاء القبض على يسوع ورجعوا بكفّي حنين معلنين بلا تردّد: "ما تكلّم أحد قَطّ مثل هذا الرّجُل!" وتذكّر الرّسل – وكانوا اثني عشر لا واحدًا- كلّ عبارات يسوع- ناهيكم عن مواقفه ومعجزاته- بالكلمة والحرف لمحبّتهم له التي جعلتهم من أجله يتركون كل الناس وكل شيء ويضحّون نهائيًا بحياتهم في سبيله وفي سبيل البشارة. وممّا كان يزيد "انطباعهم" من كلماته أنّ عددًا منها كان صادمًا يقع وقوع الصّاعقة أو هبوب النار على الهشيم، مثل "أحبّوا أعداءكم"، "سامح أخاك سبعين مرّة سبع مرّات"، "طوبى للفقراء بالروح...طوبى للودعاء... طوبى للرحماء... طوبى لأنقياء القلوب"... أنتم ملح الأرض... أنتم نور العالم...".

2- الإيقاع والسّجع والتّوازن في الأصل الآراميّ للإنجيل

ليس أساس الذّاكرة فقط فكريًّا عند الرسل ومعنويًّا بل هو مربوط بشكل عبقريّ بالألفاظ والأحرف (كما في بعض مواضع من التوراة)، فاللغات السّاميّة، بما فيها الآراميّة، ثريّة بالكلمات مبدعة حتّى في حروفها. نشير هنا بسرعة إلى مهارة يوحنا المعمدان مع الألفاظ :"قال لجموع العبرانيّين: لا تعلّلوا النفس بقولكم: نحن أبناء إبراهيم، أقول لكم: إنّ الله قادر من هذه الحجارة (بالآرامية : أبانين) أن يقيم أبناء (بالآراميّة: بانين) لإبراهيم". ويعطينا النقل السرياني "البسيط ("فشيطو") فكرة عن السجع والإيقاع والتّوازن في آيات الإنجيل، بين صدر وعجز وبداية ونهاية وتنسيق عفويّ بين الألفاظ خرج من فم السيّد المسيح : " لا تخفى مدينة على جبل، ولا يُوقد سراج ويوضع تحت المكيال!" وقدأثبت مؤخرًا الأب العالم الفرنسي فردريك "غيغان" أن" "الأناجيل اليونانيّة" نقل أي "ترجمة" من الآراميّة التي نطقت بها السيدة العذراء الأمّ.

3- أمانة المخطوطات

باختصار نشير إلى ما لا يقلّ عن خمسة آلاف مخطوطة في اليوناني للعهد الجديد بنسبة تَطابق تتعدّى 97 بالمئة، والفروقات طفيفة بين نصب وجرّ. ولهذه الاختلافات في اليونانيّة شأن قليل إذ لا يؤثّر على المعنى. ويأتي علم "نقد النّصّ" ليبيّن المخطوطات القديمة من الأقلّ قدمًا. والعلم يلفظ الحكم، لا الدين والعقيدة بل العلم: علم المخطوطات وعلم الخطوط وعلم الحبر، بحيث لا يجوز لأحد أن يقدح الكنيسة بالتحريف أو بالتحوير بما أنّ الرّأي ليس لها على الإطلاق في هذا المضمار.

خاتمة

نعم، لا دور للكنيسة في تحديد المخطوطات ولا التّمييز بينها ولا تقويمها بين أصيل ودخيل وقديم وجديد. وهكذا مرّة أخرى في عبقريّتها السامية وأمانتها الدائمة لا تخشى الكنيسة على كلمة الله وبتواضع "تؤدّي لقيصر- أي لعلماء المخطوطات والخطوط- ما لقيصر" وهي واثقة من الربّ الذي وعدها بأنه هو الذي بناها بحيث أن "أبواب الجحيم لن تقوى عليها"!