موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٩ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٠
خطاب البابا إلى أعضاء السلك الدبلوماسي لمناسبة العام الجديد

الفاتيكان نيوز :

التقى البابا فرنسيس صباح هذا الخميس في القصر الرسولي بالفاتيكان أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي لتبادل التهاني بحلول العام الجديد كما جرت العادة في مطلع كل سنة.

استهل فرنسيس خطابه متحدثا عن الرجاء الذي يشكل فضيلة أساسية بالنسبة للمسيحيين، وقال إن الرجاء يتطلب واقعية، وإدراكاً للمشاكل الراهنة في زماننا والتحديات الموجودة في الأفق، يتطلب أن تُسمّى الأمور بأسمائها ويتطلب شجاعة مواجهة المشاكل مع العلم أن الإنسانية ما تزال تحمل علامات الجراح التي ألمّت بها نتيجة الحروب المتعاقبة، والتي ما فتئت تستهدف الفقراء والضعفاء بقدراتها التدميرية المتنامية. وللأسف لا يبدو أن العام الجديد يحمل مؤشرات مشجعة. في ضوء هذه الظروف، مضى البابا إلى القول، لا يسعنا أن نفقد الأمل وهذا الأمر يتطلب الشجاعة والإدراك أن الشر والألم والموت لن تكون لهم الغلبة، كما أن المشاكل الأكثر تعقيداً ينبغي أن تواجَه وتُحلّ. ولفت إلى أن الرجاء هو الفضيلة التي تحملنا على السير قدماً، وتعطينا الأجنحة عندما تبدو العراقيل صعبة التجاوز.

بعد أن وجه تحياته إلى ضيوفه خاصا بالذكر عميد السلك الدبلوماسي، سفير قبرص جورج بوليديس، شكر البابا الحاضرين على التزامهم اليومي الدؤوب من أجل تمتين العلاقات التي تربط الكرسي الرسولي ببلدانهم وبالمنظمات الدولية لصالح التعايش السلمي بين الشعوب. هذا ثم أكد فرنسيس أن السلام والنمو البشري المتكامل هما الهدف الأساسي للكرسي الرسولي ضمن التزاماته الدبلوماسية، وتندرج في هذا الإطار الاتفاقات التي تم التوقيع عليها أو إبرامها خلال العام المنصرم، مع جمهورية الكونغو الديمقراطية، جمهورية أفريقيا الوسطى، بوركينا فاسو وأنغولا.

وذكّر بزياراته الرسولية التي شكلت مناسبة لتعزيز الحوار السياسي والديني على مختلف المستويات. ولفت إلى أنه التقى مطلع العام الفائت وفي إطار اليوم العالمي الرابع والثلاثين للشباب عددا كبيراً من الشبان الذين توافدوا إلى باناما، من القارات الخمس مفعمين بالأحلام والآمال. وتوقف البابا بعدها عند التجاوزات المرتكبة من قبل عدد من رجال الدين واصفاً إياها بالجرائم الخطيرة بحق كرامة الشباب والأطفال والمراهقين، وقال إن هذه الجرائم تسيء إلى الله وتولّد أضرارا جسدية وسيكولوجية وروحية لدى الضحايا. وأضاف أنه لمناسبة اللقاء الذي عُقد في شهر فبراير الماضي مع أساقفة العالم أراد الكرسي الرسولي أن يجدد التزامه في تسليط الضوء على الانتهاكات وحماية القاصرين.

هذا ثم ذكّر البابا بأنه دعا إلى تنظيم حدث عالمي في الرابع عشر من أيار مايو المقبل من أجل إعادة النظر في المنظومة التربوية وتعزيز الحوار البناء والتفاهم المتبادل وسط الأجيال الناشئة وبناء علاقات إنسانية أكثر أخوّة. وقال في هذا السياق إن التربية تتطلب الدخول في حوار صادق مع الشبان الذين يطالبون بتعزيز التضامن بين الأجيال والذي فُقد وللأسف في السنوات الأخيرة إزاء الميل إلى الانغلاق على الذات والدفاع عن الحقوق والامتيازات المكتسبة. وأضاف أن الشبان قادرون على تقديم الكثير في هذا السياق بفضل حماستهم والتزامهم وتعطشهم إلى الحقيقة.

وتوقف البابا عند التزام الأجيال الفتية في توعية البالغين على القضايا المتعلقة بالتبدل المناخي مشددا على ضرورة أن يكون الاعتناء بالبيت المشترك محط اهتمام الجميع. والشبان يدعوننا إلى ارتداد إيكولوجي لم تفطن له بعد السياسة الدولية إذ لم تتجاوب بعد بالشكل المناسب مع ظاهرة التبدل المناخي. ولفت إلى سينودس الأساقفة بشأن الأمازون الذي عُقد في الفاتيكان العام الفائت وتناول قضايا عدة من بينها مسائل بيئية التي تعني حياة سكان المنطقة المهددة. تابع البابا خطابه متوقفاً عند الأزمات المتنامية في أمريكا اللاتينية والتي لم تخل من أعمال العنف وقد ولّدت تبعات اجتماعية واقتصادية وإنسانية خطيرة. وشاء أن يذكّر الجماعة الدولية بضرورة البحث عن حلول للوضع في فنزويلا. واعتبر أن القادة السياسيين في القارة مدعوون إلى تعزيز ثقافة الحوار لصالح الخير العام وتفعيل دور المؤسسات الديمقراطية وإرساء دولة القانون.

وفي سياق حديثه عن الزيارة التي قادته إلى الإمارات العربية المتحدة ذكّر فرنسيس بأنه وقع مع إمام الأزهر أحمد الطيب على وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والتعايش المشترك. وقال إن الوثيقة ترمي إلى تعزيز التفاهم المتبادل بين المسيحيين والمسلمين والتعايش في مجتمعات متعددة الأعراق والثقافات. وبعد أن قدم لمحة عن أبرز ما جاء في الوثيقة أكد البابا أنه من الأهمية بمكان أن تُربّى أجيال الغد على الحوار ما بين الأديان بغية تعزيز التعارف والتفاهم والدعم المتبادل بين أتباع مختلف الديانات. ولفت البابا بعدها إلى زيارته للمغرب حيث وقّع على إعلان مشترك مع العاهل المغربي بشأن مدينة القدس للتشديد على المعنى الروحي والدعوة الخاصة التي تتميّز بها مدينة السلام.

وقال إن فكره يتجه اليوم إلى القدس وإلى الأرض المقدسة حاثاً الجماعة الدولية على تجديد التزامها في عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، بشجاعة وصدق وفي إطار احترام القانون الدولي. بعدها توقف فرنسيس عند ما يجري في سورية مؤكدا أنه من الملح جداً التوصل إلى حلول ملائمة وبعيدة النظر تسمح للشعب السوري الحبيب، الذي أنهكته الحرب، بأن يستعيد السلام ويعمل على إعادة بناء البلاد. وقال إن الكرسي الرسولي يعبر مرة جديدة عن امتنانه للأردن ولبنان على استضافتهما ملايين اللاجئين السوريين.

هذا ثم عبر فرنسيس عن قلقه حيال المؤشرات المقلقة على أثر تنامي حدة التوتر بين إيران والولايات المتحدة ما يعرض للخطر عملية إعادة بناء العراق، وقال إنه يحث الأطراف المعنية على الحيلولة دون مزيد من التصعيد والاستمرار في طريق الحوار وضبط النفس في إطار الاحترام التام للشرعية الدولية. وفيما يتعلق بالوضع في اليمن ذكّر فرنسيس بأن هذا البلد يشهد أخطر أزمة إنسانية في التاريخ المعاصر، وسط لامبالاة الجماعة الدولية، معربا أيضا عن قلقه حيال تجدد العنف في ليبيا. وقال إن هذه الأوضاع تشكل تربة خصبة للاتجار بالبشر لافتا أيضا إلى أن البحر المتوسط تحول إلى مقبرة كبيرة، ودعا الجماعة الدولية إلى تحمل مسؤولياتها حيال المهاجرين واللاجئين مشيداً بالدول التي مدت يد العون لهؤلاء.

ثم تابع الأب الأقدس متوقفا عند زيارته خلال العام المنصرم ثلاثا من دول أوروبا الشرقية أي بلغاريا ومقدونيا الشمالية ورومانيا، وتحدث عن أن ما يجمع هذه الدول رغم الاختلافات كونها كانت عير القرون جسورا بين الشرق والغرب وتقاطع طرق للاثنيات والحضارات. وتابع أنه اختبر خلال هذه الزيارات مجددا أهمية الحوار وثقافة اللقاء من أجل بناء مجتمعات سلمية. وواصل البابا مشددا من جهة أخرى على أهمية دعم الحوار واحترام الشرعية الدولية لحل ما توصف بالنزاعات المجمَّدة في القارة الأوروبية، مشيرا على سبيل المثال إلى الأوضاع في غرب البلقان وجنوب القوقاز. أكد البابا أيضا تشجيع الكرسي الرسولي للمباحثات حول إعادة توحيد قبرص، وتثمين المحاولات الساعية إلى حل النزاع في شرق أوكرانيا. وعاد الأب الأقدس في هذا السياق إلى المشروع الأوروبي وبداياته وذلك للتأكيد على أهمية الحوار، وأكد قداسته اهتمام الكرسي الرسولي منذ البداية بهذا المشروع وذكَّر في هذا السياق بالاحتفال هذا العام بمرور خمسين سنة على مشاركة الكرسي الرسولي كمراقب في المجلس الأوروبي وأيضا تأسيس العلاقات الدبلوماسية مع الجماعة الأوروبية. وتابع البابا مشيرا إلى مواصلة هذا الاهتمام مع التشديد على فكرة بناء شامل تحركه روح المشاركة والتضامن كي تكون أوروبا نموذجا للاستقبال والمساواة الاجتماعية. وشدد البابا فرنسيس على أنه لا يمكن لأوروبا أن تفقد حس التضامن الذي ميزها لقرون حتى في اللحظات الصعبة في تاريخها. هذا وذكَّر قداسة البابا من جهة أخرى بمرور ثلاثين سنة على سقوط جدار برلين، وقال إن هذه الجدار يظل رمزا لثقافة الانقسام التي تُبعد الأشخاص بعضهم عن بعض وتفتح الطريق أمام التطرف والعنف. وأشار في هذا السياق إلى خطاب الكراهية المنتشر في شبكة انترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وذكّر قداسته هنا بتأكيد البابا الفخري بندكتس السادس عشر على انه لا يمكن للسلام أن يتعزز إن لم تنتهِ الكراهية، وذلك عبر مصالحة تقوم على المحبة المتبادلة.

ثم انتقل البابا فرنسيس إلى القارة الافريقية مذكرا بزيارته الرسولية إلى موزمبيق ومدغشقر وموريشيوس، وتوقف عند ما لمس من علامات مصالحة فأشار إلى التطورات في موزمبيق عقب توقيع اتفاق الأول من آب أغسطس المنصرم، وتحدث عن لمسه في مدغشقر إمكانية ضمان الأمن ولمس الرجاء والحياة حيثما كان كثيرون يتحدثون عن الموت والدمار. أما حول جمهورية موريشيوس فقال البابا فرنسيس إنه لمس تعاون الأديان بهوياتها الخاصة للمساهمة في السلام والتذكير بقيمة الحياة. ثم تابع متحدثا عن مناطق أخرى من القارة الأفريقية معربا عن الألم أمام العنف المستمر في بوركينا فاسو ومالي والنيجر ونيجيريا والذي يستهدف أشخاصا أبرياء من بينهم مسيحيين يُضطهدون ويُقتلون بسبب إيمانهم. ودعا قداسته المجتمع الدولي إلى مساعدة هذه الدول في كفاحها ضد الإرهاب، وتابع أن هناك حاجة لاستراتيجيات تضمن لا فقط الجانب الأمني بل أيضا تقليص الفقر وتحسين الأنظمة الصحية، التنمية، المساعدات الإنسانية، تعزيز الحوكمة الجيدة والحقوق المدنية، فهذه هي ركائز تنمية اجتماعية حقيقية. هناك حاجة أيضا إلى دعم المبادرات التي تشجع الأخوّة بين الثقافات والاثنيات والأديان.

نقطة أخرى هامة أراد البابا فرنسيس تسليط الضوء عليها هي الأوضاع المناخية التي تزيد من حدة النزاعات وحالات الطوارئ الإنسانية وتؤدي إلى نزوح أعداد كبيرة من الأشخاص، ما يؤثر أيضا على حياة أشخاص يعيشون في فقر خطير. وأشار الأب الأقدس هنا إلى أنه لا يوجد بعد رد دولي لمواجهة ظاهرة النزوح الداخلي حيث لا يوجد تعريف دولي متفق عليه، ما يؤدي إلى أن النازحين الداخليين لا يحصلون دائما على ما يستحقون من حماية. ثم أشار البابا فرنسيس إلى دول مثل السودان معربا عن الرجاء أن يتمكن مواطنوه من العيش في سلام ورخاء والتعاون من أجل النمو الديمقراطي والاقتصادي. تحدث قداسته أيضا عن جمهورية أفريقيا الوسطى مذكرا بالاتفاق الموقع في شباط فبراير الماضي، ثم عن جنوب السودان مكررا الرجاء في أن يتمكن من زيارته، كما وذكَّر بالخلوة الروحية التي عُقدت في الفاتيكان في شهر نيسان أبريل المنصرم، وأعرب عن الرجاء في أن يواصل المسؤولون السياسيون الحوار من أجل تطبيق الاتفاقيات المبرمة وذلك بدعم من المجتمع الدولي.

ثم عاد البابا فرنسيس إلى الزيارة الرسولية الأخيرة التي قام بها خلال عام 2019 والتي حملته إلى شرق آسيا وتحديدا إلى تايلاند واليابان. وفي حديثه عن تايلاند أشار البابا إلى التناغم بين المجموعات الاثنية الكثيرة التي يتكون منها هذا البلد باختلافاتها الفلسفية والثقافية والدينية. وعن اليابان قال الأب الأقدس أنه لمس الألم الكبير الذي يمكن أن نتعرض له كبشر، وأضاف أن إصغاءه إلى الناجين من القصف النووي على هيروشيما وناغازاكي أكد أنه لا يمكن بناء السلام على التهديد بإبادة للأشخاص بأسلحة نووية. وأكد البابا فرنسيس مجددا أن عالما خاليا من الأسلحة النووية هو ممكن وضروري وشدد على أنه قد حان الوقت كي يعي مَن لديهم مسؤولية سياسية هذا الأمر، ليس الردع النووي ما يمكنه أن يجعل العالم أكثر أمنا، بل العمل الصبور لجميع الأشخاص ذوي الإرادة الطيبة الذين يكرسون أنفسهم بشكل ملموس من أجل بناء عالم سلام وتضامن واحترام متبادل. وتابع قداسة البابا فرنسيس أن سنة 2020 تقدم فرصة هامة في هذا المجال، وذلك في إشارة إلى المؤتمر الذي سيُعقد في نيويورك من 27 نيسان أبريل حتى 22 أيار مايو لاستعراض معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وأعرب الأب الأقدس عن الرجاء أن يصل المجتمع الدولي إلى اتفاق حول كيفية تطبيق هذه الأداة القانونية الدولية. هذا وأراد الأب الأقدس الحديث عن بلد لم يزره حسب ما ذكر وهو استراليا، فأكد توجهه بفكره إلى هذا البلد الذي يواجه خلال الأشهر الأخيرة حرائق مستمرة. وأكد قداسته لسكان استراليا، وخاصة للضحايا ومن يعيشون في المناطق التي اندلعت فيها الحرائق، قربه وصلاته.

تحدث قداسة البابا بعد ذلك عن مرور 75 سنة على تأسيس الأمم المتحدة، وقال إننا ولهذه المناسبة نريد تأكيد عزم العائلة البشرية بكاملها على العمل من أجل الخير العام كمقياس وتوجيه للعمل الأخلاقي ومنظور يجب أن يُلزم كل بلد على التعاون من أجل العيش والأمان في سلام في كل بلد، وذلك بروح الكرامة المتساوية والتضامن الفعلي وفي إطار تشريعي يقوم على العدالة. وشدد البابا على ضرورة تجنب رؤية تربط الحقوق الأساسية بظروف بعينها لأن في هذا نسيان لكون هذه الحقوق متجذرة في طبيعة الإنسان في حد ذاتها.

وفي ختام كلمته إلى أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين لدى الكرسي الرسولي أراد البابا فرنسيس التذكير بالرسام الشهير رافاييلو سانسيو والذي يمر500 عام على وفاته، وتحدث البابا عن قدرة هذا الفنان على بلوغ تناغم بين المواد المختلفة، وقال قداسته إن الدبلوماسية مدعوة بدورها إلى بلوغ تناغم بين خصوصية الشعوب والدول المختلفة وذلك لبناء عالم يتسم بالعدالة والسلام. ذكرى أخرى أراد البابا فرنسيس التحدث عنها هي مرور 70 سنة على إعلان عقيدة انتقال مريم العذراء، وقال قداسته إنه يريد التوجه بفكره بشكل خاص إلى النساء مذكرا بالمؤتمر العالمي حول المرأة الذي عُقد 25 سنة مضت في بكين. وأعرب البابا عن الرجاء أن يكون هناك في العالم بكامله اعتراف أكبر بدور المرأة الثمين في المجتمع، وأن تتوقف كل أشكال الظلم واللامساواة والعنف ضد المرأة. وختم قداسة البابا أن انتقال مريم يدعونا إلى النظر إلى ما هو أبعد، التطلع إلى اليوم الذي يترسخ فيه السلام والعدالة بالفعل.