موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ١٦ مايو / أيار ٢٠١٣
حديث في المحبة .. والكراهية

إبراهيم كشت - جريدة الرأي الاردنية :

المحبّة عاطفة أساسها الميل النفسي نحو شخص أو شيء أو فكرة ، والأُنسُ إليها ، والانجذاب نحوها، والسعي لخيرها دون انتظار نفع أو مقابل . ويغلُبُ أن ترتبط هذه العاطفة بمشاعر واستعدادات ومواقف أخرى ترافقها ، فإذا كانت المحبّـة موجّهة نحو شخص فإنها تقترن عادة برؤيــة الجانب الأجمل والأفضل من شخصيته ، وتفهُّمِهِ ، والحرص عليه ، والدفاع عنه، والتماس الأعذار لزلاّته ، والاهتمام بأموره حتى الصغير منها ، وتمني الخير له ، والفرح لنجاحه، والاستياء لإخفاقه ، والتألم لألمه ، والشعور بالذنب عند إيذائه ، والاستمتاع بمجالسته ومرافقته أو سماع أخباره ، كما قد تقترن هذه المحبة بافتقاد الشخص المحبوب عند غيابه ، والاشتياق إليه ، ومنحه حيّزاً مــن التفكير والوقـت ، والاستعداد للتضحية لأجله .
وإذا كان نَقيضُ المحبّة هو (الكُره) ، فإنه يتمثل بالنفور من شخص أو شيء أو فكرة ، ويغلب أن يرتبط بالابتعاد عن المكروه أو تحاشيه ، مع رؤية الجانب السلبي منه ، وربما تمنّي زواله ، أو لحاق الأذى به ، فإذا كان الكُره موجهاً نحـو شخص مثلاً فغالباً ما يقترن بعدم القدرة على تفهّمه أو التماس العذر لأخطائه ، مع ميلٍ إلى إدانته وتضخيم هنّاته ، وعدم القدرة على التكيف معه ، والإحساس بالتّوتر لمجرد مجالسته أو مرافقته أو الاستماع إليه ، وقد ينقلب هذا التوتر إلـى عدوان في المواقف أو في التعابير أو الألفاظ أو الجوارح والأفعال .

* المحبةُ أُمُّ الفضائلِ :
المحبّةُ بطبيعتها منبع لعدة فضائل وأخلاق طيّبة وسلوكات إيجابية أخرى : ففي ظلال أغصان شجرة المحبة الوارفة الممتدة في الوجدان تنمو أزهار الحنان والعطف والرحمة ، وتتجه بجمال ألوانها وعبق أريجها إلى شخص المحبوب . وعن أضواء قنديل المحبة المنير داخل النفس، يشعشع سناء السلام فيغمر علاقتنا بالمحبوب ، فنحن أقل عدوانية عادة نحو من نحب وأكثر تسامحاً وصفحاً عنه . ومن صفاء وصدقيّة المحبّة المتدفقة في القلب يتمخض تفهم (الآخر) الذي نحبه والصبر على سلوكه الذي قـد لا يواتينا ، ومن صميم بذرة المحبة المتحفِّزة للإنبات والنمو والاخضرار والإزهار والإثمار ينبثقُ البذل والإيثار والتضحية والعطاء . حتى الولاء المفعَمُ بالإخلاص والحماس للعمل ، والموجّهَ للوطن أو لمؤسسة أو فكرة أو موضوع أصله تلك المحبة التي نُكنُّها لأيٍّ منها .
ليس هذا وحسب ، فالفضائل التي تولد من رحم المحبة ، وتنبجِسُ كالينابيع العذبة من جوفها ، تكـون صادقة حقيقية لا تكلف فيها ، تنطلق من شخص المُحبِّ بمحض إرادته ، وعن طيب خاطر منه ، فقد أتكلّفُ مثلاً الصفح عن شخص أساء لي ، وقد أتكلف عناء الصبر على سوء سلوكه ، لأسباب متعددة دينية أو فكرية أو اجتماعية أو نفعيّة ، لكن إذا كنت أَحمل المحبة لهذا الشخص ، فإن صفحي وصبري سينطلقان من ذاتي ومن إحساسي الطبيعي التلقائي . وبناء على ذلك فإن الفضائل المتعددة التي تنبع مـن المحبة تكون أقرب لمفهوم الأخلاق ، لأن الخُلق يعني الطبع والسجيّة ، ويعني السلوك الصادر عن النفس دون تكلّف ، وهي ــ أعني الفضائل الناتجة عن المحبة ــ أقرب إلى الأخلاق وأبعد عن التخلّق كذلك ، لأنها لا تهدف إلى نفع أو كسب أو مصلحة ، وإنما هي فضائل تؤدّى لذاتها ولا تنطلق إلا عن المحبّة ، فهي بذلك متوافقة مع تعريف الأخلاق التي قال المرحوم المنفلوطي في كتابه (النظرات) إنها تعني : (( أداء الواجب لذاتــه ، بقطـــع النظر عما يترتب عليه مــــن نتائـــج )).

المحبة أساس السعادة والإيجابية أيضاً ..
مهما كثُرتْ التحليلات والدراسات حول السعادة أو الإيجابية ، ومهما كُتِبَ في أمرهما ، أو تعدد القول فيهما ، فلا يمكن لمن يتعمق في فهمهما ، إلاّ أن يعترف بأنّ سرّاً واحداً هو الذي يكمن خلفهما ، وحقيقة واحـدة هي التي تبعثُ عليهما ، ألا وهي (المحبَّـة) ، فكلما تعدد الأشخاص الذي نكنُّ لهم الحب ، وكلما تعددت الأشياء والأفكار التي نحبُّـها ، كانت في الحياة فرصٌ أوسع للخصب والثَّراء والسرور والسعادة ، وكان ذلك منطلقاً نحو النظرة الإيجابية لكل ما يحيط بنا في الكون والحياة ، وتكشَّفَ لنا الجانب الأكثر إشراقاً وأملاً من حولنا ، وزادت العناصر التي تبعث في نفوسنا الأُنس والرَّغبة في الحياة ، وزادت أيضاً الدَّوافع التي تخلق فينا الإيجابية ، وقلَّ تسلل الملل إلى أوقاتنا ، واليأس إلى حياتنا .
وما يقال عن المحبة ، يقال عن الكره والبُغض نقيضُه ، فكلما كثُر عدد الذين نكرههم وكثرت الأشياء التي نمقتها ، كان ذلك أدعى إلى التَّعاسة والسَّـأم والتشاؤم والسلبية على مستوى الفرد ، وأدعى إلى الفرقة والتشتت والصراع والضعف على مستوى المجتمع . وأذكر هنا كتاب رئيس الوزارة الأردنية الأسبق المرحوم الأستاذ سعد جمعه ، والذي يحمل اسم (مجتمع الكراهية)، فقد ردَّ فيه أسباب خلافات الأمة واختلافاتها وضعفها وفرقتها إلى انتشار الكراهية بين أفرادها ومؤسساتها ومنظماتها ودولها . ولاشك أنه لم يخرج بهذه النتيجة ، ولم يُسمِّ كتابه بهذا الاسم ، إلاّ من منطلق ماله من تجربة في الحياة والسياسة والعمل العام .

بين منح المحبة ونيلها
الغريب في أمر تعاملنا مع المحبّة كمعنى وعاطفة وسلوك ، أننا نتمناها ونسعى إليها ، ونعمل لأجلها ، ونغضب لغيابها ، لكن من اتجاه واحد في غالب الأحيان ! بمعنى أننا نتمنى أن يحبّنا الناس ، ونبذل الكثير لأجل نيل هـذا الحب ، ويؤلمنا أن نجد منهم مقتاً أو نفوراً ، دون أن نتفكر في الاتجاه الآخر ، أي دون أن نتمنى أن نحبَّ نحن الناس ، أو أن نسعى لملء قلوبنا بالمحبة ، وتطهيرها مـن الكره . نغضب حين يكرهنا أحد ، لكننا لا نغضب مـن أنفسنا حين نكره البعض ، ونبذل الجهد والوقت والمال للظفر بمحبة مَنْ حَولنا ، دون أن نبذل شيئاً لمنحهم محبتنا ، مع أن طبائع الأمور تقضي بأن نيل محبة الناس كثيراً ما يكون بمقدار ما نمنحهم نحن من محبة .

* نحن نتحدث في موضوع
المحبة أكثر مما نعيشها فعلاً .. !
لعل مما يجدر بنا ملاحظته بشأن المحبة ، هو أننا في مجتمعنا نتحدث في أمرها أكثر مما نعيشها في الواقـع والسلوك والممارسة ..! فمعظم الأغاني موضوعها الحبّ ، ومعظم المسلسلات التلفزيونية ، والأفلام السينمائية ، والروايات ، وكثير من القصائد ، موضوعها الحب. لكننا من حيث الحقيقة لا نعيش الحُبَّ بهذا القـــدر في الواقع ، وكثيراً ما تكون المحبة في حياتنا مجرد ادّعاء ، وبالتالي فإنها لا تترجم إلى سلوك ، فلا تزهر ولا تثمر .

حتى على مستوى الأمومة والأبوة والبنوّه والأخوة ، فإننا بقدر ما نسمع من عبارات حول (فلذات الأكباد التي تمشي على الأرض) ، وعبارات حول أهمية (رضا الوالدين) ، وعبارات التغزّل بما لدينا من روابط اجتماعية ، وعواطف فياضة نتفوق بها على سائر الأمم ـ كما نقول في كثير من الإحيان ـ بقدر كل ذلك أو أكثر منه ، فإننا نسمع حكايات الخلافات العائلية ، والعقوق ، والعنف الأسري ، والشقاق والطلاق ، والتنازع على الإرث ، إلى حـد اللجوء إلى المحاكم ، أو الاقتتال ، أو طلب الابن الحجر على أبيه ، أو مقاطعة الشقيق لشقيقه ، أو الاعتداء عليه لمجرد دخول المصالـح المالية بينهما . رغم أن ظاهر العلاقات كان محاطاً أمام الناس دائماً بادعاء التكافل والتضامن والمحبة .

المحبة سلوك ...
صحيح أن المحبة من حيث أصلها ومنطلقها عبارة عن مشاعر ، لكنها في حقيقتها وآثارها ومعايشتها هي سلوك . فأي معنى للمشاعر في واقع الحياة إذا لم تترجم إلى ممارسة ؟ وأي معنى لما وَقَرَ في القلب ما لم يصدقه العمل ؟ وأي معنى لإدعاء المحبة التي لم تؤيّد بالعطاء والاستعداد للتضحية ، فالحقيقة أنه إذا كان ضد المحبة كعاطفة وشعور هو الكره ، فإن ضدها (أي ضد المحبة) من حيث كونها واقعاً وسلوكاً هو : الأنانية ، وفي هذا المعنى يقول (ستيفن كوفي) في كتابه الرائع والشهير (العادات السبع للناس الأكثر فاعلية) ، إنه : (( في الأدبيات العظيمـة لكل المجتمعات المتقدمة ، الحبُّ فعل ، يحوله الأشخاص المتقاعسون إلى شعور )) .