موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٢ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٥
جريس سماوي: لكي يبقى الملح جزءاً أساسياً من مائدة الوطن

عمّان - جريس سماوي :

بين أيدينا كتاب "أغصان الكرمة.. المسيحيون العرب" للدكتور عبد الحسين شعبان وهو كتاب أنيق في الشكل والمضمون صادر عن مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية في بغداد ويقع في بابين اولهما بعنوان الأبحاث والدراسات وهو منقسم الى خمسة أقسام والثاني بعنوان المقالات ويقع في قسمين.

وأود ابتداء أن أشير بالأحترام العالي الى أستاذنا الدكتور عبد الحسين شعبان لشجاعته العلمية ولموقفه الأخلاقي الذي سجله في هذا الكتاب المهم وهو الباحث والأكاديمي والمدافع عن حقوق الإنسان في وقت تعصف الكراهية والأنشقاق والظلامية والسطحية ببلداننا العربية ومنطقتنا وخصوصا فيما يتعلق بتلك المكونات الأصيلة من مكونات مجتمعاتنا ومنها المسيحيون العرب الذين ساهموا في الحضارة العربية الأسلامية مساهمة الأبناء المدافعين والمنافحين عنها والمحاربين من أجلها لأنها منهم ولهم. أقول أرفع يدي بالتحية والتقدير لأستاذنا في الوقت الذي لم نجد فيه مظاهرة أو صوتا أو صرخة أحتجاج على ما حصل لمسيحيي الموصل أو أزيديي العراق وكأن الشارع العربي الذي دأب على الحركة والحراك قد لمسته يد ادت به الى الشلل. وهنا أرى أنه لا بد من بحث هذه الظاهرة وهذا السكوت ولا بد من أن نرفع السؤال ورفع الأسئلة مشروع ومباح وقد أمسينا في هذه المنطقة بدون أجوبة على الأسئلة الكبرى التي ألمت بأمتنا وانسحبت على مجمل تاريخنا وبقيت بدون أجابات لقرون وقرون وصرنا وكأننا لا نفهم ومن يفهم!!

ينسحب على مجمل هذا الكتاب قلق ينفلت أحياناً من بين السطور ويختفي تارة خلف معلومات بحثية وتاريخية يجتهد صاحبها في استحضارها. هو قلق على مشروع الدولة، وقلق على المواطنة، وقلق على التنوع الثقافي والعرقي والديني الذي ازدهرت به منطقتنا لقرون طويلة ويرفع المؤلف قلقه هذا على شكل إحالات الى التاريخ والأحداث الجارية وهو المحيط إحاطة شاملة بما يحتويه التاريخ من شواهد وأدلة ومرجعيات لها ارتباطها بموضوع بحثه وأطروحته التي يضعها من أجل الاستدلال الى الفكرة الرئيسة التي يفصح عنها منذ الصفحات الأولى حيث يصف المسيحيين العرب بأنهم ملح العرب في إشارة الى مقولة السيد المسيح لأتباعه: "أنتم ملح الأرض فإذا فسد الملح فبماذا يملح؟". وهذه إشارة ذكية من المؤلف من حيث الدلالة والرمز ومن حيث الإجماع العربي في فترة عصر النهضة الذي شهد التخلص من الحكم العثماني وفي سنوات النهوض الوطني أيضاً ولا أقول القومي فقط في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي هذا الإجماع الذي يشير باحترام وتباه ويعترف بدور المسيحيين العرب الوطني والنهضوي والتنويري وحفاظهم على اللغة العربية ونسخ القران الكريم في الأديرة على يد الرهبان ومن ثم مشاركتهم في النضال الوطني ضد الاستعمار الكونيالي الحديث، إضافة الى دورهم في الثقافة والفنون عموما. ويدل استخدام كلمة الملح هنا ايضا الى اشارة أخرى بالإضافة الى إعطاء الإستساغة والنكهة الى الحضارة العربية والأسلامية كما يفعل الملح بالطعام الا وهي الإشارة الى القلة والندرة في إشارة الى قلة عدد المسيحيين في العالم العربي إلا أنهم مؤثرون في التنوير والنهوض والمواطنة. فالعرب المسيحيون كانوا دائما حماة الإسلام والمدافعين والمنافحين عنه ذلكأنهم وجدوا فيه هوية وانتماء ورفعة شأن قومي جعلهم يعتنقونه ثقافة وحضارة وأرثا ووجدانا.

ورغم ان المؤلف لا تروق له كلمة أقلية إذ إن المسيحيين العرب في بلدانهم هم أغلبية لأنهم عرب كما يقول الأ انه يضطر الى استخدام مصطلح الأقلية في أكثر من موقع. فهو يقول: "على الرغم من أن الأمم المتحدة قد جاءت على ذكر حقوق الأقليات في إعلانها عام 1992 إلا أنه والحديث للمؤلف: "شخصيا لا أنظر الى المسيحيين كأقلية، وأشعر بقدر من الإنزعاج عند استخدام مصطلح "الأقلية" على المكون الثقافي المسيحي أو غيره قومياً كان أم دينياً" انتهى الاقتباس.

يشير المؤلف الى هجرة المسيحيين المتزايدة من الشرق العربي ويتساءل: ماذا بعد تفريغ المنطقة من المسيحيين؟ والجواب على هذا التساؤل يقع على عاتق إقامة الدولة العصرية التي تقوم على المساواة وعدم التمييز كما يقول وهي في الدرجة الأولى مسؤولية اسلامية وعربية بحسب المؤلف. وقد كنت أتمنى على أستاذنا وهو القادم من أصول يسارية علمانية لو أنه أفرد بعض الصفحات ليضع لنا تصورا في كيفية الأنتقال الى الدولة العصرية المدنية أو العلمانية أن شئت.

لقد استوقفني عنوان فرعي في القسم الخامس من الباب الأول في الكتاب وهو بعنوان: "الحق في الأيمان والحق في التسامح"، على الرغم من تحفظي على كلمة تسامح واؤيد هنا استخدام كلمات من قبيل المساواة أو العدالة، فتحت هذا العنوان يناقش المؤلف مفهوم التسامح ويشير الى التفاعلات التي حدثت في اوروبا بعد الحروب الطاحنة والتمميز والتعصب التي عصفت بالقارة العجوز. وأقول هنا أن ما يسمى بالتسامح هو مفهوم يعني أن هناك من هو أعلى مرتبة وأرفع شأنا وأقوى وأكثر عددا يتسامح مع من هو اقل شأنا وعددا وقوة ففي الدول التي تحكمها القوانين المدنية يتخذ مفهوم التسامح صيغا قانونية كالعدل والمساواة والحرية وتكافؤ الفرص بحيث تحكم جميع مكونات المجتمع القوانين والتشريعات.

وعودة الى العنوان الفرعي المشار اليه فقد أعجبتني أشارة المؤلف الذكية حين قال: "أن نشر مبادىء التسامح وسيادة روح الحق في الأختلاف تتطلب أعادة التفكير في الموروث الثقافي وأخذ التراث في سياقه التاريخي وأعادة بناء العلاقة بين الثقافة والدولة وبين المجتمع والسلطة الخ..." ويأتي المؤلف في سياق اشاراته واستشهاداته بالمرجعيات الى القران الكريم والى سور وأيات بعينها تحض على التسامح. لكن هل الأستشهاد بالدين كاف لأثبات هذا الحق الأجتماعي الطبيعي والغريزي؟ ذلك أن القران حمال أوجه كما قال عنه علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وأي نص ديني سواء كان اسلاميا او مسيحيا او من أي دين اخر هو أيضا حمال أوجه ما دام هذا النص مرتبط بالغيب وخاضع للتأويل والتفسير، وأسجل للمؤلف ذهابه باتجاه حلول الدولة المدنية والأشارة الى القرن السابع عشر في أوروبا الذي شهد بروز الفهم القانوني والمدني لمفهوم التسامح. وهنا أضع السؤال عاليا: هل تبقى مفاهيم من مثل التسامح أو العيش المشترك أو السلم الأجتماعي أو عدم التمييز أو الحق في الأختلاف مفاهيم خاضعة لفهم كل فرد وكل جماعة على حدة؟ هل تبقى هذه المفاهيم تدور في أطار الفهم الغامض والمجاملات والعواطف التي سرعان ما تتغير مع فتوى فقيه او معركة ترحيل قسري أو حدث جلل مزلزل؟ وأذا كان باحثنا الكريم يقول بمليء الفم أن الحل أنما يكمن في الدولة المدنية العصرية فلماذا لا نقول بملء الفم أيضا بأننا نريد قوانين وتشريعات تعزز المساواة والعدل وحرية الفرد والمكونات الثقافية المختلفة وتحترم الأختلاف والتنوع وتحرّم وتجرّم التمييّز والطائفية وقد أشار باحثنا الكريم الى اقتراحه في وضع قانون يحرم الطائفية في العراق وتمنيت لو اسهب في وضع مقترحات تتصل بقوننة المفاهيم التي تدعو الى العيش المشترك والسلم المجتمعي ووضعها في أطر تشريعية تجرم من ينتهكها.

وأشير هنا الى قانون التسامح البريطاني الذي صدر عام 1689 وكتابي جون لوك: "رسالة في التسامح" و "رسالتان في الحكم" بحيث أصبح هناك منظومة قانونية تجرم التمييز. وانسحب ذلك على أوربا بمجملها.

أنني أرى أن مساهمة الدكتور عبد الحسين شعبان في كتابه هذا تعتبر لبنة أساسية في وضع بنيان متين لمستقبل بدون تمييز ولدولة مدنية قادمة تقف مع الإنسان وتنحاز للحياة في مواجهة الظلامية والتطرف. وأشكره الشكر العالي على نضاله من اجل حقوق الإنسان ورفعه الأسئلة بجرأة وصدق وحيادية. ويبقى من هذه الأسئلة السؤال الذي يطرحه المؤلف وماذا بعد؟ وتبقى دعوته لمراجعة الميراث الثقافي والإجتماعي والديني للأمة مفتوحة وأضيف الى ذلك الدعوة الى ضرورة قيام الأحزاب العربية والجماعات الضاغطة والأفراد والمؤسسات التي تعنى بالعدل والمساوة والحرية لوضع أطار لمشروع الدولة المدنية القادمة. وقبل ذلك بكثير وبعده أيضاً على المسلمين والمسيحيين معاً أفراداً وجماعات العودة الى اصول وثوابت مشروع النهضة العربية وبلورة مفهوم الهوية الوطنية في إطار الثقافة العربية الإسلامية وفصل الدين عن الدولة من أجل الوصول إلى مستقبل يصبح فيه الملح جزءاً أساسياً من مائدة الوطن وتكون هذه المائدة متنوعة غنية زاخرة وفاكهتها العدل والمساواة والحرية.