موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٢١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٨
جائزة تمبلتون.. معاني وقيم ودروس

د. كميل موسى فرام :

تسلم جلالة الملك عبدالله الثاني باسم الأردنيين جميعا جائزة تمبلتون العالمية وسط حضور دولي شاهدة ملايين المتابعين عبر شاشات التلفاز التي نقلت الحدث السنوي، وهو عالمي بامتياز أقيم في كاتدرائية واشنطن الوطنية، حيث قلدت السيدة هيذر تمبلتون ديل وهي حفيدة مؤسس الجائزة لجلالة الملك بمراسم غاية في الدقة والتحضير إضافة لميدالية شجرة الحياة؛ كل ذلك تقديرا لجهود جلالته في تحقيق الوئام بين الأديان، وحرصه الدائم على رعاية المقدسات الدينية؛ المسيحية والاسلامية في القدس الشريف، وحماية الحريات الدينية التي أعلن جلالته بأكثر من مناسبة أن العبث ومحاولة تغيير المفهوم الصحيح للتلاحم لاثارة النعرات هو خط أحمر لن يسمح به أبداً بل ومن يحاول خلط هذه الثوابت يكون عدوا لجلالته لتأكيد رسالة أردنية مثلت عنوان الحكم الهاشمي عبر القرون بأن هذه الأرض هي أرض المحبة والسلام، وربما أن الاهتمام بهذه الجزئية الوطنية والحرص الملكي قد تأكد بأكثر من مناسبة بخطابات جلالته والمبادرات المتعددة التي أطلقها ورعايته الشخصية لجميع الأنشطة المتعلقة بالأمر؛ الحرص والأداء والمتبعة للتطبيق على واقع الأرض هي العناوين الأساسية للحياة الكريمة للفرد على هذا التراب الطاهر.

وُلدت فكرة جائزة تمبلتون من مؤسسسها جون تمبلتون سنة 1972 من رحم الواقع المرير الذي خيم على مستقبل الأمم نتيجة الابتعاد عن التعاليم السماوية التي حملتها الرسالات أو تلك التي تمثل بأبجديتها مشروع سلم ومحبة، حيث جوهر ذلك يتمثل بتطابق متكامل على المحرمات وتشجيع شديد لسلوكيات ترصف طريق المحبة والسلام، فكانت فكرة الجائزة الأساسية أن تمنح للأشخاص الذي يساهمون في الأعمال الخيرية والاكتشافات العلمية من منطلقهم الروحي، وهي جائزة تفوق بقيمتها الأدبية والمعنوية والشخصية عن الجائزة العالمية الأكثر شهرة وهي جائزة نوبل التي تجاهلت الأمور الروحية بالرغم من تعدد جوانبها، إضافة لتأثرها الشديد المؤثر–أي جائزة نوبل–بالميول السياسية لأصحاب القرار بانحياز مؤسف غير منطقي وبعيد عن الواقعية حيث هناك زاوية مظلمة يصعب رؤية محتواها، فجاءت جائزة تمبلتون لتصحيح خطأ بشري وسياسي من مؤسس روحاني يهدف لنشر رسالة الوئام بصورتها الصحيحة، ومع مرور الوقت خضعت مبررات منح الجائزة لتواكب لتغيرات لامست جوهر قيمتها وفكرتها، نتيجة مباشرة لتطورات الأحداث في نهاية القرن الماضي خصوصا بواقع الحروب الطاحنة التي مزقت جزءا من حضارة البشرية ولكن منحها كان بشكل أساسي لشخصيات تساهم بدرجات متواضعة في الوئام والروحانية، ولكن الأعمال الرائدة التي يحمل لواءها القادة الحريصون على ديمومة ورخاء البشرية وينبذون جميع أشكال العنف والتفرقة لأسباب فوقية أو تجاوز على حقوق الآخرين أصبحت حاضرة في أجندة لجنة التحكيم.

حيث جاءت الجائزة هذا العام بمعنى مختلف تماما عندما قرر القائمون عليها من أحفاد المؤسس وأعضاء لجنة التحكيم صاحبة القرار–والتي تمثل مختلف الطوائف والديانات العالمية حيث فيها المسيحيون والمسلمون والهندوس واليهود والبوذيون أعضاء في اللجنة- لمنح هذه الجائزة العالمية لجلالة الملك عبدالله الثاني، وهذا الأمر تحديدا أعطى للجائزة قيمة مضافة مختلفة لأنها المرة الأولى بتاريخها منذ التأسيس تُمنح لشخصية سياسية مؤثرة يحسب لها ألف حساب في جميع المحافل الدولية ولها رأي مؤثر بقرارات مصيرية لتحديد مستقبل الأمم، فجلالته يدافع عن القيم الانسانية التي تؤسسس لمجتمع بشري ينعم بالرخاء والمحبة والتسامح والتشاور وقبول الآخر.

الخطاب الشهير الذي ألقاه جلالته في حفل الجائزة حمل المعاني والقيم الأساسية لجوهر الديانات خصوصا بفقرة مهمة مؤثرة يجب الوقوف عليها طويلا عندما ركز على توضيح مبادئ الديانة الاسلامية وعلاقتها بمختلف أتباع الديانات، حيث هناك أقلية هامشية خبيثة وحاقدة تستغل الدين وتستميل العواطف بطريقة مغايرة وهي فئة محاربة ولا تمثل رأي، فالأردن ممثلا بقيادته وشعبه حريص على الاحترام المتبادل بين أتباع جميع الديانات، وهناك ميزة روحانية دينية لهذه الأرض تمنحها القدسية حيث جميع الأنبياء لهم في هذه الأرض المباركة مساحة كبيرة من تاريخها ومنحتها الاستقرار بقيادة هاشمية متميزة عبر التاريخ، حافظت على ديمومة التألق حيث انعدم التناحر الديني أو الطائفي بالرغم من جهود البعض المتواضعة التي لجمتها القيادة والشعب.

لقد استذكر جلالته بختام خطابة أبجديات نسج الخير حتى لا يستبد الشر الذي يفرض حضوره عندما يعجز الصالحون عن العمل، ولكن العمل المشترك ضمن أسس الأخلاق والتسامح سيوصل بالنتيجة بمركبة البشرية لشاطئ المستقبل الآمن الذي يسوده السلام وهو ما تحتاجه البشرية اليوم، ودعوة للكفاح في هذا الطريق تمثل الجهاد الحقيقي لمستقبل الأجيال القادمة للعيش برغد ومحبة، بعيدا عن تناحرات الأصوات الشاذة التي تجد حجمها ومجدها على حساب أتون الأمم التي تتصارع وتقتل باسم الدين، ولكن الدين منهم براء.

الجائزة بحد ذاتها تعطي مفردات ومعاني ودروس يجب تحليل أركانها والافادة منها، فحصول جلالته عليها بهذا الاستحقاق والاحترام العالمي هو احترام للهوية الأردنية ولهذا الشعب الذي يعيش على هذه الأرض المباركة؛ أرض الأنبياء لكل الديانات، منها وُلدت أفكار تُرجمت لأرض الواقع مثل رسالة عمان بمعانيها السمحة، مؤتمر الأديان والحضارات، استضافة سنوية للحاصلين على جائزة نوبل، رعاية المقدسات، وتجدير أسس المواطنة الصالحة، تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة نداء مبادرة جلالته شخصيا بما يعرف الآن باسبوع الوئام بين الأديان، وحرصه في الحفاظ وتطوير موقع معمودية السيد المسيح، ناهيك عن دعواته المتكررة للمحافظة على هوية المدينة المقدسة «القدس» بطابعها المقدس لأتباع الديانات، رمزا لترسيخ مبادئ المساواة والعدالة واحترام القيم السماوية كمدينة مقدسة تجمع، فكان جلالته مبادرا في الحفل عندما أعلن التبرع بجزء من قيمة الجائزة لدعم مشاريع ترميم المقدسات في المدينة المقدسة.

تتعدى المعاني العظيمة لحصول جلالته على هذه الجائزة العالمية التي تؤكد احترام العالم لشخصه وإنعكاس هذا الاحترام على شعبه الوفي الذي بادلة المحبة بالحب، وحفر اسم الأردن بأسمى صوره؛ أردن التسامح والسلم والتقدم، هذا البلد الصغير بمساحته والمتواضع بموارده ولكنه الأغنى بقائدة الذي جعل له كلمة الفصل والرأي عندما يصل القرار لمنعطفات عالمية مؤثرة تحتاج للعقلانية والحكمة، وهو المعنى الحقيقي لهذه الجائزة العالمية بقيمها التي تحملها والدروس التي تسطرها ليتعلم الآخرون.

(الرأي)