موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ١٤ يوليو / تموز ٢٠١٩
تعليم الكنيسة الاجتماعيّ والشرق العربيّ

المطران كيرلس سليم بسترس :

صدرت السنة الفائتة الترجمة العربيّة لكتاب "كومْبونْديوم عقيدة الكنيسة الاجتماعيّة". وهو يضمّ مجموع (هذا معنى لفظة "كومْبونْديوم" اللاتينيّة) تعاليم الكنيسة الكاثوليكيّة في الموضوع الاجتماعيّ. فعندما نقرأ ما تعلّمه الكنيسة في هذا الشأن ونقارنه بالحالة التي تسود في معظم بلدان الشرق العربيّ، ينتابنا الذهول لما نرى من فرق شاسع بين الاثنين. سأكتفي ببعض الأمثلة تتبيّن من خلالها صورة عامّة لوضع العدالة الاجتماعيّة في بلدان شرقنا العربيّ.

1- الأجر العادل: يقول الكتاب: "يجب مكافأة العمل بما يضمن للإنسان إمكانيّة توفير حياة لائقة ماديًّا وثقافيًّا وروحيًّا له ولذويه" (رقم 302). ثمّ يتكلّم على البدل العائليّ ويقول: "البدل العائليّ هو البدل الذي يسدّ حاجات العائلة لكي تعيش بكرامة. إنّ بدلاً كهذا يجب أن يُتيح ادّخار مبلغ يسمح باقتناء هذا أو ذاك من أشكال الملكيّة كضمانة للحريّة. فالادّخار هو من أجل حيازة ملكيّة عائليّة" (250). في هذا الموضوع معظم الأجور التي تُدفَع للعمّال في أوطاننا غير كافية لتوفير حياة لائقة لهم ولذويهم. فما يتقاضاه العامل، في معظم الأحوال، لا يكاد يكفي لبقاء العامل على قيد الحياة. فكم سنة من العمل يحتاج العامل ليستطيع ممّا يذّخره أن يقتني ولو شقّة سكنيّة صغيرة. لذلك تكثر في لبنان الهجرة. فيسافر الشبّان إلى الخارج سعيًا وراء أجور تؤمّن لهم إمكانيّة اقتناء ملك خاصّ لهم ولأولادهم.

2- العمل المنزليّ: ويتكلّم النصّ حتى على "دفع أجر عن العمل المنزليّ الذي يقوم به أحد الوالدَين" (رقم 250). ويُضيف "إنّ العمل المنزليّ، بدءًا بقسط الأمّ منه، يهدف إلى خدمة جودة الحياة ويتفرّغ لها، ما يحتّم الإقرار به اجتماعيًّا وتثمينه، بما في ذلك عبر أجر يوازيه اقتصاديًّا ويتساوى به على الأقلّ مع غيره من أجور الأعمال الأخرى. وفي الوقت عينه يجب إزالة كلّ الصعاب التي تعوق الزوجين عن ممارسة مسؤوليتهما الإنجابيّة بحريّة، ولا سيّما تلك الصعاب التي تُرغِم المرأة على عدم القيام بوظائفها الأموميّة بشكل كامل" (251). في هذا الإطار انتشر في العصر الحاضر عمل الأمّهات خارج المنزل، وتسليم تربية الأولاد إلى خادمات أجنبيّات. وهذا ما يناقض طبيعة العائلة ودور الأمّ في العائلة.

3- البطالة: يتكلّم الكتاب في عدّة مواقع على البطالة. ويقول "إنّ لحالات البطالة تداعيات ماديّة وروحيّة على العائلات" (رقم 294). ويقول: "إنّ القدرة على التخطيط في مجتمع يسعى إلى الخير العامّ ويتطلّع نحو المستقبل تُقاس... بفرص العمل التي يستطيع توفيرَها. إنّ ارتفاع معدَّل البطالة، ووجود أنظمة تعليم تخطّاها الزمن، وصعوبات مستمرّة في اكتساب التنشئة وولوج سوق العمل تشكّل عائقًا كبيرًا في تحقيق الذات إنسانيًّا ومهنيًّا، ولا سيّما بالنسبة إلى العديد من الشبّان والشابّات. فمن هو عاطل عن العمل أو يعمل بأدنى من قدرته يتحمّل العواقب الشديدة السلبيّة التي يتسبّب بها وضع كهذا على الشخصيّة" (رقم 289). إنّ نسبة البطالة في شرقنا العربيّ مرتفعة جدًا حتى تناهز في بعض البلدان العشرين في المئة من السكّان. وهذه آفة لا بدّ للدولة العمل بإلحاح على معالجتها.

4- كرامة العمّال واحترام حقوقهم: يؤكّد الكتاب أنّ "حقوق العمّال، كما جميع الحقوق الأخرى، ترتكز على طبيعة الإنسان وعلى كرامته المتسامية. ومن بين هذه الحقوق يذكر الحقّ في ضمان الشيخوخة (رقم 301). وهذا الحقّ يندر أن نجده مؤمَّنًا في شرقنا العربيّ. فإلى جانب الإساءة إلى العمّال في أجور لا تضمن لهم حياة لائقة، يقضي المواطنون شيخوخة بائسة عندما يتقدّمون في السنّ ولا يعود بإمكانهم القيام بأيّ عمل. أين كرامة الإنسان في هذا الشرق العربيّ؟

5- كرامة الأولاد وحقوقهم: هذا الموضوع خصّص له الكتاب فقرتين (244-254). ويقول "إنّ بعض المشاكل الشديدة الخطورة ما زالت بدون حلّ: عمالة الأولاد والاتّجار بهم، ظاهرة ’أولاد الشوارع‘، زواج القاصرات، استخدام الأولاد في تجارة المواد البورنوغرافيّة، وذلك حتى عن طريق أحدث وسائل الاتّصال الاجتماعيّة وأكثرها تفنّنًا. إنّه لمن الواجب أن تُحارَب، على الصعيدين الوطنيّ والدوليّ، الانتهاكات الماسّة بكرامة الأولاد، صبية وصبايا، والناتجة عن استغلالهم الجنسيّ على يد أشخاص يمارسون بغاء الأولاد وعن شتّى صنوف العنف التي تتعرّض لها تلك الكائنات البشريّة التي لا تقوى على الدفاع عن نفسها. إنّها أفعال جرميّة يجب مكافحتها بفعاليّة عبر تدابير وقائيّة وجزائيّة مناسبة في إطار إجراءات حازمة تتّخذها مختلف السلطات" (245). إنّ شرقنا العربيّ لا يزال بعيدًا عن إيجاد حلول لمختلف مشكلات الأولاد. فلا يزال المتسوّلون من الأطفال يملأون شوارع مدننا. وكأنّ المسؤولين في دولنا، كما يقول صاحب المزامير عن الأصنام، "لهم عيون ولا يُبصرون ولهم آذان ولا يسمعون". أين كرامة الإنسان المخلوق على صورة الله في مثل هذه المشاهد؟ أين حقوق الإنسان التي تعهّدت الدول بالتقيّد بها؟

6- الحريّة الدينيّة: يشدّد الكومبونديوم على ضرورة احترام الحريّة الدينيّة، ويرى "أنّ الحقّ في الحرية الدينيّة، مع الأسف، منتهَك في دول عدّة إلى حدّ اعتبار التعليم المسيحيّ، أو تأمين تلقينه، أو تلقّيه، جرمًا يستوجب العقاب" (رقم 423). تكثر اليوم التصريحات في مختلف مؤتمرات الحوار المسيحيّ-الإسلاميّ بضرورة تأمين الحريّة الدينيّة وحريّة المعتقد لجميع المواطنين، وبالمساواة بين جميع المواطنين مهما كان دينهم أو مذهبهم. لكنّ هذه التصريحات تبقى مجرَّد كلام إن لم تدخل في دساتير البلدان.

7- البيئة: يكرّس الكتاب فصلاً كاملاً للكلام على أهميّة "الحفاظ على البيئة" (الفصل العاشر رقم 451-487). ويشدّد على دور الدولة في "الرقابة الدقيقة على مفاعيل الاكتشافات التقنيّة أو العلميّة الجديدة، وضمان عدم تعرُّض المواطنين للملوِّثات أو للنفايات السامّة" (رقم 468). نرى في هذا المجال في لبنان الكوارث التي سبّبها جشع المستثمرين وأصحاب المصانع والمقالع ومختلف المؤسّسات في تشويه الطبيعة وتلويث الأرض برًّا وبحرًا. لقد أفاقت الدولة أخيرًا وأنشأت وزارة للبيئة نرجو لها أن تعمل دون أن تخضع للسمسرات ولا لضغوط أصحاب النفوذ العديمي الإحساس بجمال الطبيعة والذين لا يعرفون ما معنى سلامة البيئة، ولا تهمّهم إلا مصلحتهم الخاصّة، وشعارهم القول المأثور الذي يدلّ على ذهنيّة أنانيّة في الشرق العربيّ: "بعد حماري ما ينبت حشيش".

هذه بعض الأمثلة ممّا ورد في هذا الكتاب من تعاليم تهمّ العالم أجمع، وتستطيع بلدان الشرق العربيّ بنوع خاصّ الإفادة منها، من أجل رفع الظلم عن مواطنيها العائشين منذ قرون في القهر والذلّ ومختلف أنواع الحرمان. بلداننا في الشرق الأوسط عامّة وفي العالم العربيّ خاصة كثيرة التديّن لله لكنّها قليلة الاحترام للإنسان. لكنّ السيّد المسيح قد علّمنا أنّنا لن نستطيع الوصول إلى الله إلاّ من خلال خدمة الإنسان. وفي هذا قال القديس إيريناوس أسقف ليون: "مجد الله هو الإنسان الحيّ".

(نقلاً عن جريدة النهار اللبنانية، السبت ١٣ تموز ٢٠١٩)