موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٢٩ يوليو / تموز ٢٠١٩
تحديات بحاجة إلى حسم: قطاع التعليم العالي

وفاء الخضراء :

التعليم العالي مثل كل القطاعات يتأثر ويؤثر بالواقع المحلي والاقليمي والعالمي. الأزمة المالية العالمية “والانتكاسة الاقتصادية والقيمية” كان لهما الأثر الكبير في التأثير على واقع هذا القطاع. فقد أثرا-من بين التأثيرات الاخرى المتلاحقة- على نوعية وكفاءة الموارد في الجامعات ابتداء من الموارد البشرية الفكرية منها والقيادية وانتهاء بالموارد المادية. ما أدى لظهور أزمة معقدة ومركبة انبثقت من عجز آليات مؤسسات التعليم العالي وأنماط تعاملها مع التحديات والمخاطر التي تم ترحيلها من سنة إلى سنة لتتشكل من داخل الممارسات الخاطئة والمشوهة أحيانا.

رغم ذلك كله، فالجامعات الأردنية وبكل ما واجهت وتواجه من تحديات، لم تفقد مرونتها وعزمها على الاصلاح والتغيير والتحول، محاولة تخطي الصعوبات بحكمة وبذكاء.

من هذه التحديات ما يلي:

أولا: الكهولة الفكرية. فالجامعات الناجحة تتحرك من خلال ماكينتها الذهنية المتينة والرشيقة التي تدفع باتجاه التخطيط الاستراتيجي الفعال القائم على استشراف المستقبل بكل تحولاته المتسارعة وعلى أفعال استباقية للمخاطر والتحديات. فالرأسمال الفكري الحيوي يمنح “المجتمعات ” التعلمية /التعليمية مرونة ذهنية عالية تسعى إلى “تخيل” بناها وإعادة إنتاج فلسفاتها و”تحرير” أدوارها وعلاقاتها وديناميكيات عملياتها وبنيتها التشريعية لتكون مشاركاً فاعلاً ومؤثراً في المشهد الحالي وبكل أبعاده. فالتغيير يتطلب “جاهزية” عالية للاصلاح وسرعة الاستجابة للمستجدات، “والجوهر” في المحتوى الإصلاحي وقراءة المشهد التعليمي/ التعلمي “والجودة” في التطبيق والتنفيذ والمتابعة. وهذا من شأنه تمكين الجامعات من محاكاة نماذج ذكية تحوّلية للتحاور والتفاوض المستمر مع الثورات الصناعية والمعرفية والتكنولوجية المتسارعة للخروج بخطط طريق قادرة على تحريك عجلة التغيير الإيجابي والإنتاجية بكل أشكالها.

غياب الرأسمال الفكري النّشط الخلاّق سيكلف المؤسسات الجامعية والمجتمع بأكمله هدرا للطاقات البشرية وللفرص والإمكانات. وسيخلق واقعا بديلا قد ينحى منحى العبثية عندما يضيع ويُستنزَف في تفاصيله المايكروية والسطحية.

ثانيا: النكسة المؤسساتية. عندما يُفتقَد عنصر الريادة والابتكار والإبداع في القيادة أو الادارة أو الحاكمية، تفقد الجامعات قدرتها على إنتاج مخرجات فاعلة قادرة على إحداث الفارق، وتفقد مكانتها ودورها التنموي والنهضوي. فتصبح مؤسسات هشّة أمام تقلبات المناخات المحيطة.

حيث أنه إذا تقاطع مسار هذه الجامعات مع قطاعات أخرى في الدولة وسوق العمل، أو عندما تتقاطع مع رؤى وفلسفات وسياسات خارج الآفاق الأكاديمية، فإنها لن تتمكن من تنظيم هذه العلاقات والتحكم بهذه التقاطعات بهدف قيادة المشهد والتأثير فيه بفاعلية. لا بل إنها قد تقع فريسة لهيمنة هذه القطاعات بكل أشكالها، وتكون عرضة لأعراف وطقوس وسياقات غريبة ودخيلة على قيم وأعراف العالم الأكاديمي. فالتسييس والأدلجات والتسليع داخل الصروح الجامعية أمثلة حية على ذلك.

ثالثا: شتات القيم الأكاديمية. للقيم الاكاديمية سياقاتها وأعرافها وطقوسها وإجراءاتها، وتلك هي التي تعطي المؤسسات مناعة وقدرة على التعامل مع كل العوارض والتحديات والأزمات. في الوقت الراهن هناك حالة “شتات” تعتري منظومة القيم هذه، لا بل غربة شبه تامة. فهنالك الكثير من العادات الدخيلة على المشهد الأكاديمي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أضحت المؤتمرات عبارة عن مهرجانات “استعراضية” مفرغة في كثير من الأحيان من مضامينها الأكاديمية الحقة. وغدا العديد من المنابر الجامعية مساحات للساسة الهواة يروجون فيها لخطابهم غير المنسجم مع السياق الأكاديمي، بدلاً من فتح المنابر هذه أمام قادة الفكر والعلماء والادباء والدارسين الجادين. وكادت الحلقات الفكرية والنقاشية والمنتديات الرصينة تتلاشى في المساحات الاكاديمية وتحل محلها “موائد الانتفاع” التي تُرسي أعرافاً وقيماً مشوهة. وأصبحت المجلات الهابطة أكاديمياً، وفي أحيان مزورة، نقطة عبور للرتب الاكاديمية العليا.

رابعا: غربة العقل الأكاديمي. هل يُستثمر العقل الأكاديمي في الجامعات الأردنية في الابتكار والإبداع والإنتاج الأكاديمي، أما أنه عرضة لأن يُهدر في “معارك” يومية حياتية ووجودية ومهنية من أجل “البقاء” ؟ الغالبية من الأكاديميين يعانون من احتياجات يومية تترنح بين نقص الأدوات والأجهزة والمختبرات من ناحية وبين أعباء تدريسية مُثقلة. فالعقل الأكاديمي لن يقوى على الإنتاج والعطاء في غياب الأمن المكاني والوظيفي والفكري.

نحتاج إلى تشخيص مدروس وموضوعي وعلمي لايقتصر على آراء شخصية لحالات فردية تتأرجح ما بين التفاؤل الساذج والتشاؤم العدمي: تحليل وقراءة شمولية لواقع مؤسسات التعليم العالي.
نحتاج إلى التشخيص الدقيق والمسؤول بدون أي تجميل أو ترقيع أو تضليل. فالتعليم العالي يتطلب “علواً” في القيم والرؤى والخطط العملية ليسمو بمخرجاته ونتائجه، وليكون فاعلاً ومؤثراً على طريق طويل من الاصلاح والنماء.

(الغد)