موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ١٩ فبراير / شباط ٢٠٢٠
تأمل في الصوم على ضوء آيات الكتاب المقدس
طوبى لنا اذا عشنا زمن الصوم بروح التوبة وبقلب نادم على الخطيئة ومفعم بمحبة الله والقريب.
المطران رمزي كرمو، رئيس أساقفة ديار بكر وعموم تركيا للكلدان

المطران رمزي كرمو، رئيس أساقفة ديار بكر وعموم تركيا للكلدان

المطران رمزي كرمو :

 

يعتبر زمن الصوم الكبير والذي يدوم سبعة أسابيع من أهم أزمنة سنتنا الطقسية والليتورجية، لأنه يهيئنا للاحتفال بأكبر وأهم أعيادنا، أي عيد القيامة المجيد الذي هو محور واساس حياتنا المسيحية، وهو الموضوع الرئيس الذي تبشر به الكنيسة منذ أكثر من ألفي سنة.

 

في رسالته الأولى إلى أهل قورنثس يقول القديس بولس: "اذكركم أيها الاخوة البشارة التي بشرتكم بها وقبلتموها ولا تزالون عليها ثابتين، وبها تنالون الخلاص اذا حفظتموها كما بشرتكم بها، والا فقد امنتم باطلا. سلمت اليكم قبل كل شيء ما تسلمته انا ايضا، وهو ان المسيح مات من اجل خطايانا كما ورد في الكتب، وانه قبر وقام في اليوم الثالث كما ورد في الكتب" (15/ 1-3).

 

الكنيسة المقدسة امنا ومعلمتنا تدعونا الى ان نستثمر زمن الصوم استثمارًا جيدًا، لكي ننال النعم والبركات اللازمة لانعاش وتقوية حياتنا الروحية ولكي نكتشف اكثر فاكثر هويتنا ومسؤوليتنا كمسيحين في عالم اليوم، اننا كمسيحين نستمد هويتنا من المسيح نفسه، اي لو لم يكن المسيح لما كنا اليوم مسيحيين واما رسالتنا فهي امتداد لرسالته الخلاصية والتي تشمل كافة شعوب العالم.

 

يدعونا الصوم الى البحث عما هو جوهري وضروري لحياتنا، والابتعاد عما هو سطحي وسريع الزوال.  يذكرنا الانجيل المقدس بأن ربنا والهنا يسوع المسيح صام اربعين يومًا واربعين ليلة في البرية انتصر خلالها على تجارب الشيطان الثلاث، والتي كان موضوعها: اشباع اللذات الجسدية، حب المال والثروة الدنيوية والانجراف وراء مجد العالم الباطل (راجع متى 4/ 1-11).

 

الصوم يذكرنا بجذور ايماننا المسيحي والتي هي عبارة عن الاستماع الى كلام الله والعمل بموجبه. "مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (متى 4/4). ان تجارب يسوع الثلاث هي تجارب كل واحد منا اليوم، لكن على عكس يسوع الذي قاومها ولم يسقط فيها لانه تمسك بكلام الله الحي نحن غالبًا ما نسقط فيها والاسوء من هذا نتعود عليها لاننا اهملنا كلام الله. ولهذا يمكننا القول بأن زمن الصوم الكبير هو زمن العودة بقلب تائب وعزم ثابت الى ينبوع حياتنا المسيحية اي كلام الله الحي لنتذكر ونتأمل في جواب سمعان بطرس حينما قال يسوع لتلاميذه الاثني عشر: "افلا تريدون ان تذهبوا انتم ايضًا؟ اجابه سمعان بطرس: يا رب الى من نذهب وكلام الحياة الابدية لديك؟" (يوحنا 6/67). ولنتذكر ايضًا جواب يسوع لتلاميذه حينما قالوا له: "يا معلم كُل، فقال لهم: لي طعام اكله انتم لا تعرفونه…. طعامي هو ان اعمل مشيئة الذي ارسلني واتم عمله" (يوحنا 4/31-32 و34).

 

نعم، أن الصوم لنا نحن المسيحين، يعني قبل كل شي ان نشعر بجوع حقيقي الى كلام الله الحي. الصائم هو ذلك الذي يصلي ويتغذى بكلام الله لكيما يخرج ظافرًا ومنتصرًا من معركته وصراعه مع التجارب الثلاث. لنتذكر ونتأمل مرة اخرى فيما قاله يسوع بهذا الخصوص: "وهذا الجنس من الشيطان لايخرج الا بالصلاة والصوم" (متى17/21).

 

من المؤسف جدًا ان يقتصر الصوم لدى الكثير من المؤمنين فقط على الانقطاع عن اكل اللحم او بعض الماكولات الاخرى او الصيام حتى الظهر، هكذا صوم يشبه اكثر بنظام غذائي نتيجته هي التقليل من وزن الجسم وليس له اي ارتباط بالصوم الذي يطلبه منا ربنا والهنا يسوع المسيح. لا ننسى بأن صوم الجسد من الماكولات اذا لا يرافقه صوم القلب من الخطيئة فأنه باطل وليس له اية قيمة ايمانية وروحية، هذا ما يقوله لنا يسوع في الايات التالية. فلنسمع ونتأمل: "ودعا يسوع الجمع ثانية وقال لهم: اصغوا الي كلكم وافهموا: ما من شيء خارج عن الانسان اذا دخل الانسان ينجسه، ولكن مايخرج من فم الانسان هو الذي ينجس الانسان... لانه من باطن الانسان، من قلوبهم، تنبعث المقاصد السيئة والفحش والسرقة والقتل والزنى والطمع والخبث والمكر والفجور والحسد والشتم والكبرياء والغباوة. جميع هذه المنكرات تخرج من باطن الانسان فتنجسه" (مرقس7/ 14-15 و21-23). على ضوء هذه الايات نستطيع القول بأن الصوم الذي يطلبه منا يسوع هو صوم التوبة النابعة من القلب، هكذا توبه هي عمل الروح القدس في حياتنا وتعطينا نعمة الانفتاح على سر الله الذي هو محبة ورحمة ويجد فرحه في ان يغفر خطايانا مهما كانت كثيرة وثقيلة. (راجع لوقا 15/1-24).

 

كما ان الصوم يدعونا الى الانفتاح على سر الله الذي هو محبة، هكذا يدعونا ايضًا الى الانفتاح على سر القريب الذي هو كل انسان وحتى عدونا. "كذاب هو من يقول بأنه يحب الله الذي لا يراه ولا يحب قريبه الذي يراه" (راجع رساله يوحنا الاولى 4/1-2 ومتى 5/ 43-45). وبصورة خاصة يدعونا زمن الصوم الى الانفتاح على اخوتنا الفقراء والمعوزين والمتألمين وان نتقاسم معهم ما وهبنا الله من خيرات مادية، وروحية.

 

اشعيا النبي الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد هذا ما يقوله عن الصوم: "أليس ان تكسر للجائع خبزك، وان تدخل المساكين التائهين الى بيتك؟ واذا رايت عريانا ان تكسوه وان لا تتوارى عن لحمك" (58/7). ويسوع يقول: "كلما صنعتم شيئًا من ذلك لواحد من اخوتي هولاء الصغار، فلي صنعتموه" (متى25/40).

 

طوبى لنا اذا عشنا زمن الصوم بروح التوبة وبقلب نادم على الخطيئة ومفعم بمحبة الله والقريب.

 

صومًا مباركًا للجميع. أرجو من الذين يقراون هذه الأسطر أن يصلوا من أجلي كي أعيش ما تبقى لي من الحياة الزمنية بالإيمان والرجاء والمحبة وإعطاء الشهادة حتى النهاية. مع الشكر، ولنبقَ متحدين بالصلاة رباط المحبة الذي لا ينقطع.