موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٧ فبراير / شباط ٢٠٢٤
تأمل الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا: الأحد الأول من الصوم ب، 2024
مر 1، 12–51

مر 1، 12–51

بطريرك القدس للاتين :

 

إن حادثة تجربة يسوع التي تبدأ بها رحلة الصوم الكبير، في إنجيل مرقس، تُروى بإيجاز شديد. آيتان فقط، جاء فيهما أنه بعد معمودية يوحنا مباشرة: "أَخَرجَ الرُّوحُ يسوعَ إِلى البَرِّيَّة، فأَقام فيها أربَعينَ يَومًا يُجَرِّبُهُ الشَّيطانُ وَكانَ معَ الوُحوش، وكانَ المَلائِكَةُ يخدُمونَه" (مر 1، 12 – 13). لم يرو مرقس أحداث التجربة أو حوار يسوع مع المُجرب، فهو يريد أن يشير إلى أمر آخر مهم.

 

إلا أن ليتورجيا الكلمة لهذه السنة الليتورجية تضيف بعض الآيات، التي لا ترتبط مباشرة بحادثة التجربة، لكنها توفر مفاهيم إضافيًا. كلمة سُمعت في الأحد الثالث من الزمن العادي، والتي بدأ فيها يسوع حياته العلنية: "حانَ ٱلوَقتُ وَٱقتَرَبَ مَلَكوتُ ٱلله. فَتوبوا وَآمِنوا بِٱلبِشارَة" ( مرقس 1 ،15).

 

لماذا هذه المقارنة؟

 

إن بداية حياة يسوع العلنية لم تحدث مباشرة بعد المعمودية: كان بإمكان يسوع أن يبدأ من هناك، من الكلمة التي سمعها من الآب وأعلنه الابن الحبيب. كان بإمكانه أن يبدأ من هناك ليحمل هذه البشرى السارة للجميع، جاعلاً صوت الآب يتردد في كل مكان.

 

بدلاً من ذلك، أخرجه الروح إلى الصحراء، إلى مكان التجربة، لأن الكلمة التي سمعها من الآب عليها أن تستقر في جسده، في حياته.

 

أشرنا إلى أن مرقس لا يخبرنا بأحداث التجربة، لكنه يوضح أن الفترة بأكملها التي قضاها يسوع في الصحراء كانت صراعًا واختبارًا مستمرًا. المكان الذي تتلامس فيه الكلمة المسموعة مع الحياة، مع الضعف، مع الحدود: وهناك نرى إذا كانت "تصمد"، وإذا كانت "تقاوم"، وإذا كانت "حقيقية". هناك نرى إن كنا نثق حقًا، وإن كنا نصغي باستمرار ثابتين ساعة التجربة، أو إن كنا سنختار طرقًا أخرى، ونفضل الطرق المختصرة، وإذا كنا سنفعل ذلك بأنفسنا.

 

من جهة تعزز الدراسات الدينية نمو الإيمان فينا، ومن جهة أخرى، علينا أن نعكس ما نؤمن به في حياتنا اليومية، خاصة عندما تبدو الأمور مستحيلة أو صعبة.

 

إذن فالصحراء ضرورية، حيث يمكن للمرء أن يخطو خطوات الإيمان المتجسد، حيث لا يسمع الإنسان عن الله فقط (راجع أيوب 42: 5)، ولكنه يعيش تجربة شخصية.

 

في النهاية، الأمر لا يختلف عما رأيناه في الأحد الماضي، مع شفاء الأبرص (مرقس 1، 40-45). يشفيه يسوع ثم يطلب منه التزام الصمت، لتترسخ بذرة الإيمان الجديدة بداخله. لكن هذا الرجل لا يستطيع مقاومة إغراء الكلمات "السهلة"، التي لم تتعمق، والتي لم تنجح في الاختبار.

 

قلنا يوم الأحد الماضي أنه من هذا الصمت فقط يمكن أن تولد الكلمات الشافية.

 

وهذا ما نراه اليوم بالضبط: من صمت يسوع، الذي يمزج حياته بالإيمان بالآب، تولد تلك الكلمات الجديدة لبدء حياته العلنية، كلمات تفتح طريق الرجاء لجميع الذين يستمعون: "توبوا وآمنوا بالإنجيل" (مر1: 15).

 

إن التغيير أمر عظيم، والإمكانية متاحة للجميع، لبدء حياة جديدة. في الصحراء، اختبر يسوع أن هذا ممكنًا له، ويعلن ذلك للجميع.

 

الحياة الجديدة، التي بدأت في الصحراء، يشير إليها الإنجيلي مرقس بصورة تشبيهية: فهو يقول: إن يسوع كان في البرية مع الوحوش وكانت الملائكة تخدمه (مرقس 1، 13).

 

تمثل الوحوش والملائكة النقيضين الأكثر تناقضًا في الحياة: أعلى تكبر وأدنى تواضع.

 

حسنًا، يمكن لهؤلاء الأضداد أن يجدوا السلام وأن يعيشوا معًا، دون خوف بعد الآن.

 

إن صورة الوحوش والملائكة هذه، تعيدنا أيضًا إلى مقطع من العهد القديم، يخبرنا أيضًا عن حالة التجربة. خالف دانيال النبي أمر الملك داريوس الذي طلب عدم عبادة إله آخر غيره، فطُرح في جُبّ الأسود ليمزق (دانيال 6). ولكن عندما فُتحت الحفرة من جديد في اليوم التالي، خرج دانيال سالماً معافى، مؤكداً أن الله أرسل ملاكه لسد أفواه الأسود (دانيال 6: 22) وإنقاذه من الموت.

 

لأن من يثبت في التجربة يعلم بأن ليس للشر عليه من سلطان. فهناك يظهر الرب بحنانه.