موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ١٦ أغسطس / آب ٢٠١٨
تأملات المطران بيتسابالا للأحد العشرين من الزمن العادي

:

(1 ملوك 19، 4-8؛ أفسس 4، 30-5، 2؛ يوحنّا 6، 41-51)

نواصل اليوم قراءة الفصل السادس من إنجيل يوحنّا، ونقترب من قمة الوحي حيث يكشف يسوع عن نفسه، كطعام يُغذّي حياة تتجاوز الحياة الأرضيّة أو البيولوجيّة. وبينما نُتابع الإصغاء، تُصبح كلمات يسوع أكثر تشكيكا و"عُسرا" (يوحنّا 6، 60).

في مواجهة اعتراضات الإسرائيليّين (يوحنّا 6، 52)، الّذين انزعجوا من "جسديّة" وجرأة تأكيداته (يوحنّا 6، 52)، لا يخفّف يسوع من لهجة الحوار، لا بل يجعله أكثر واقعيّة واستفزازاً.

كأنّه يقول أن هذا هو عنق الزجاجة الذي علينا أن نمر منه إذا كنّا نريد أن نصبح مؤمنين. هناك مقطع لا بدّ من فهمه: يقول يسوع أن تناول هذا الخبز ليس مجرد أمر ممكن بقدر ما هو شرط بدونه ليس ممكناّ الحصول على الحياة: "إذا لم تأكلوا جسد ابن البشر، وإذا لم تشربوا دمه، فلا حياة لكم في أنفسكم" (يوحنّا 6، 53).

في واقع الأمر، إنّ ردّ فعل الإسرائيليّين هو ردّنا أيضاً، ردّ فعل الإنسان القديم، رد فعل الإنسان المُتديّن الّذي لم يفهم معنى الخبز بعد.

إنّ تجربة كلّ واحد منّا هي التفكير في الربّ بمصطلحات "روحيّة" فقط، مصطلحات مُجرّدة، وبشكل ما، بعيدة عن الحياة. ولكنّ الجديد في المسيحيّة هو معثرة التجسّد، أي أن يُصبح ابن الله جسدا. هذا أمرٌ يصعب فهمه. ولكن الأصعب قبوله هو أنّه بمجرّد تناولنا جسد الرب نُصبح روحانيّين حقّا، وذلك ليس بالخروج من الحياة، بل بأخذها حتّى النهاية، كما فعل الربّ.

نحن معتادون كثيراً على التفكير بأنّ عالم الربّ وعالمنا بعيدان عن بعضهما البعض، ولا يمكن التوفيق بينهما: إنّ التشكك الذي تسببه كلمات يسوع هو في القول بأنّه لا يمكن الوصول إلى الربّ سوى من خلال الجسد. إذاً، ليس الجسد معثرة في طريق الإلتقاء بالربّ. على العكس من ذلك، هو المكان الضروري للدخول في شركة معه.

إنّ التشكك الناجم عن المقطع الإنجيلي لهذا الأحد، يزداد حدة لسببين اثنين:

السبب الأوّل هو أنّ فعل "يأكل" الّذي يستخدمه الانجيلي يوحنّا له دلالة وحشيّة، ويعني حرفيّاً المضغ والقضم والطحن: وهو الفعل الّذي نستخدمه للتعبير عن أكل الحيوانات.

وفي الفصل السادس من يوحنا يتكرر استخدام هذا الفعل أربع مرات (انظر الآيات 54.56.57.58) ، ثم يرد لاحقًا، في سياق العشاء الأخير (يوحنا 13، 18)، حيث يذكرنا بأكل فصح الربّ. لذلك، إنّ هذا الفعل يربط كلمة يسوع عن الخبز بذبيحته على الصليب، لأنه هناك، على الصليب، سوف يتمّ سحق جسده وافتراسه، وبهذه الطريقة فقط يمكن لهذا الجسد أن يصبح خبزا حقيقيا كي يحيا الجميع.

والسبب الثاني هو أنّه إضافة إلى تناول جسده – وهو أمر لا يمكن تصوّره في حدّ ذاته ، يُضيف يسوع شرب دمه.

كان هذا، بالنسبة لمستمعي يسوع أمراً غير مقبول أبدا، لأنّ التوراة كانت تُحرِّم، بشكل قاطع، شرب دم كائن حيّ، لكون الحياة موجودة في ذلك الدم: ومن كان يفعل ذلك، كان يُستَبعَد من الشعب (راجع أحبار 17، 10-11). ويؤكّد يسوع العكس: الّذين يشربون منه فقط تكون لهم الحياة. والّذين يشربون منه فقط لا يموتون.

وبالتالي، فإنّ القفزة الّتي يجب القيام بها هي قفزة هائلة: هي قفزة الإيمان بأنّ الخلاص أي بدء الحياة الأبدية يُمنَح حقّاً للإنسان ابتداءً من هنا على الأرض. أنّ الإنسان مدعوٌّ دعوة عظيمة، وهي أن يحمل حياة الربّ في ذاته، داخل جسده: إنّ الإنسان مدعو لهذه الكرامة.

يستخدم يوحنّا هنا الفعل "يقيم" (يوحنّا 6، 56) – استباقاً لحوار يسوع في العشاء الأخير، الوارد في الفصل الخامس عشر من بشارة يوحنّا: يستبقه مُعطياً مفتاح الفهم، لأنّ إقامة يسوع في التلاميذ وإقامة التلاميذ في يسوع سوف يكون ممكناً فقط انطلاقاً من وحدة الجسد ومن شركة الحياة، ضمن تناولنا وتمثّلنا حياة الربّ الّذي يجعل نفسه خبزاً.

وإن لم يكن هذا كافياً، فاسمعوا ما يضيفه يسوع: داخل هذه الشركة تكمن شركة الحبّ القائمة بين يسوع والآب (يوحنّا 6، 57)، وعيش الواحد منهما للآخر ومن الآخر: هذه هي الحياة الّتي تُعطى لنا كي نتناولها.