موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣٠ يوليو / تموز ٢٠٢٠
تأملات المدبر الرسولي لبطريركية اللاتين: الأحد الثامن عشر من الزمن العادي، السنة أ

رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسابالا :

 

(متى 14، 13-21)

 

بعد أمثال الملكوت، الّتي استمعنا إليها في الآحاد الماضية، يروي متى الإنجيلي سجن يوحنا المعمدان وقتله على يد هيرودوس (متى 14، 13-21). يلي ذلك رواية تكثير الخبز والسمك (متى 14، 13-21)، الّتي نستمع إليها في هذا الأحد.

 

يورد الإنجيلي متى خبر موت المعمدان كدافع لانسحاب يسوع إلى مكان قفر، كي يعيش لحظات من العزلة: يجد يسوع في موت سابقِهِ إعلاناً نبويّاً لمصيره هو أيضاً. ويجد نفسه بشكل أكثر وضوحاً في مواجهة سر الألم والموت الّذي ينتظره.

 

غير أن بحثَهُ عن مكان وعن فترة للعزلة، حتى من دون التلاميذ، كان مقدّرا له أن يفشل: في الواقع، أدرك الناس فكره، وسبقوه سيراً على الأقدام. فعندما نزل من السفينة، وجد يسوع نفسه أمام حشد غفير.

 

 بمجرد النزول، يرى يسوع (متى 14، 1)، أولاً وقبل كل شيء، حشدًا مُعوزاً، يفتقر إلى عدة أشياء. يفتقر إلى الصحة، لذلك يعتني بالمرضى الموجودين، ويكرس نفسه لهم. إنه جمهورٌ بحاجة للرعاية، والاهتمام والرحمة.

 

إنه أيضًا جمهور يفتقر إلى الغذاء ويجهل مكان البحث عنه والشخص الذي يُشبعُه حقًا، ولا يعرف أنه لا أحد غيره يمكن أن يعطيَه الخبز الحقيقي.

 

يفكر التلاميذ أنه من المناسب صرف هؤلاء الناس دون تحمل مسؤولية تأمين حاجاتهم المادية.

 

هذه هي التجربة الكبرى للإنسان، لكل فرد منا، وهي تجربة التفكير أن حاجة الآخر لا تخصّنا، وأنها ليست من شأننا. هي التفكير أنه ليس بإمكاننا عمل أي شيء لسد حاجة الأخ الجائع، واليقين من عدم توفر الإمكانية للقيام بذلك.

 

أما يسوع فيرى الأمور بطريقة مختلفة. يرى ما ينقص، والآن يرى ما هو متوفر: أرغفة الخبز والسمكتين. ولكن حتى لو تمّ تقاسمها، ستبدو غير كافية للجمهور!

 

من ناحية أخرى، لماذا أصبحت لاحقا كافية لإشباع الجمع لا بل الجموع الجائعة (متى 14، 19)، بحيث فضل عنها اثنتا عشرة سلّة؟

 

أعتقد أن السر هو، على وجه التحديد، في نظرة يسوع.

 

يقترح علينا إنجيل اليوم أن نضع تحت نظر يسوع ما هو متوفر لدينا بالفعل وما هو غير متوفر، وأن نبقى تحت نظره بكل ما نحن عليه، بحاجاتنا، وتوقعاتنا، وإمكانياتنا المتواضعة.

 

إذا بقينا هناك، دون الفرار إلى أي مكانٍ آخر، سيحدث حينها شيء ما، وسنتمكن من أن نرى بنفس عيون يسوع، الذي يعرف كيف يرى أشياء لا نراها عادةً.

 

يرى يسوع أن القليل، إذا تمت مقاسمته، يكفي لإطعام الكثيرين، وفقًا للمنطق الذي علمتنا إياه أمثال الفصل الثالث عشر.

 

إنه منطق صحيح لأن الملكوت يبدأ ويمرّ من خلال أشياء صغيرة، أشياء لا تلفت عادةً نظرنا، ولا نعتمد عليها في إرساء أمننا، وعلى ما يبدو لنا، للوهلة الأولى، غير كافية، أو حتى غير ملائمة.

 

كل هذا سيبلغ ذروته تحديداً في موت الرب يسوع، الذي كان موت المعمدان إعلانًا نبويًا له: هناك حيث لم يبق أي أمل، كانت البذرة تتعفّن في باطن الأرض. وفي الصمت والعزلة، التي كان يسوع يسعى إليها اليوم عبثا، كان ينمو الحصاد الذي سيغذي الجموع، وليس ليوم واحد فقط.