موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ فبراير / شباط ٢٠١٩
بولندا وطن إيمان، أبعد من مؤتمر وارسو!

الأب د. بيتر مدروس :

احتضنت وارسو، العاصمة البولندية مؤتمرًا حول "مشاكل الشّرق الأوسط وضرورة استقراره". وأصرّ فيه بعض الوزراء العرب أن يعلنوا بلا تردّد: "ليست الأولويّة للقضيّة الفلسطينيّة". وإذا تكلّمنا كمجانين وسمعنا عقلاء، نقول أنّ الجذر التاريخيّ نفسه للصّراع مع "إيران" هو بالضبط المسألة الفلسطينية. وبالفعل، لماذا هذا السّخط والحقد والنّقمة على إسرائيل عند إيران لولا أنّ هنالك سببًا للغضب وهو ليس فقط احتلال فلسطين بل الاستهتار بمقدّساتها وإذلال شعبها وتدمير عدد من الدّول العربيّة المجاورة. ويبدو على الأقلّ في الوقت الحاضر أنّ إيران واعية لهذه المأساة الرّباعيّة أكثر من غيرها –أو دون غيرها- في العالم العربيّ والإسلاميّ.

انقلاب في التاريخ مع "البعبع" الفارسيّ

العداوة بين العرب والفرس معروفة. وها هي تعود اليوم بأوضح صورها. ولكن هل كان الفرس من أعداء العبرانيّين؟ لا، بل إنّ ملكهم قورش، في القرن السّابع قبل الميلاد، هو الذي أمر بإرجاع اليهود إلى أرض كنعان التي كان نبوخدنصّر البابليّ قد نفاهم منها. وكان هذا معروفًا ساميًا لا مثيل له جعل النّبيّ أشعيا يصف ذلك الإمبراطور الفارسيّ بـ"مسيح الرّبّ" أي المنقذ المخلّص (أشعيا 45: 1). واسمه مذكور في العهد القديم 23 مرّة، بالإضافة إلى تلميحات كثيرة. ولعلّه الشّخصيّة الوحيدة، غير اليهوديّة، الّتي حصلت على لقب "المسيح". ومن سخريّة القدر - وسوء تأويل فئات أمريكيّة وسواها من خارج الكنيسة للكتاب المقدّس، أنّ أمريكا، عرّابة مؤتمر وارسو، اعتنقت من حيث لا تدري موقف قورش أي "إعادة" اليهود إلى "أرض الميعاد" ومساعدتهم ودعمهم لبناء الهيكل. وعليه، لا بأس "بأن تُقلَع شعوب لكي يُغرَسوا هم، وأن تُذلّ أمم لكي يُكرَموا هم. ولا مانع أن تدمّر حتّى في أيّامنا معابد وكنائس ومساجد لتشييد الهيكل الثّالث!

وفي أوائل القرن السّابع بعد المسيح، وبالذّات سنة 614 م، احتلّ الفرس فلسطين. وفي غرب المدينة المقدّسة، في منطقة ماميلا أو "مأمن الله"، يخبرنا المؤرّخ القدّيس "ثيوفانيس" المعترف أنّ المحتلّ الفارسيّ كان ينوي قتل سكّان القدس. فانبرى له نفر من العبرانيّين وتطوّعوا أن يدفعوا الفدية عن مسيحيّي المدينة المطلوبة، منعًا لمجزرة. ولكن، بعدأن اشترى العبرانيّون المسيحيّين قاموا هم بقتلهم. ومع الأسف، لا نعرف تاريخنا في فلسطين وقد أُخفيت معالم تلك الإبادة. وكما قال قداسة البابا البولندي العظيم يوحنّا بولس الثّاني:"يسهل اقتلاع الّذين لا يعرفون جذورهم". نلخّص: أيضًا سنة 614 م، اتّفق الفرس والعبرانيّون من جديد على الهدف أي سحق شعب آخر، وإن اختلفت الطّريقة.

بولندا: وما أدرانا ما هي بولندا!؟

العقول مشغولة بوارسو هذه الأيّام حيث تظهر خادمة للولايات المتّحدة ولإسرائيل أمينة. ومهما انحنى البولنديّون أمام العبرانيّين واسترضوا الولايات المتّحدة، لم يتردّد رئيس الوزراء العبريّ أن يلوم –على بعد أكثر من سبعين سنة- الشّعب البولنديّ بالتّواطؤ مع النّازيّين لاغتيال الكثير من اليهود، مع العلم أنّ "الرايخ الثّالث" الهتلريّ لم يقصّر بالبولنديين أنفسهم قتلاً وتنكيلاً وإبادة. ويرى المرء تحقيق المثل الدّارج:"قبلنا بالهمّ، ولكنّ الهمّ لم يقبل بنا"، ولسان حال البولونيّين المساكين: "ماذا أفعل من أجلك يا إفرائيم؟ بمَ تأمر سيادتك يا يعقوب وحضرتك يا إسرائيل؟" حتّى لو "ضوينا أو أضأنا العشرة" لا ترضون!

لا ننسينّ بولندا العريقة الشّامخة العظيمة!

لا نختزلنّ بهذا الموقف الزّاحف تحت الولايات المتّحدة وحليفتها المدلّلة أمّة البولنديّين العريقة التي يرقى تاريخها إلى القرن العاشر الميلاديّ. لا ننسينّ ما عانته من احتلال في القرن العشرين، وبالذات بعد الفاتح من سبتمبر أيلول سنة 1939 حيث تعاهد الألمان والرّوس واتّفقوا على اجتياح بولندا، ممّا أطلق شرارة الحرب الكونيّة الثّانية. ونترك تفاصيل الحروب والكوارث الأخرى.ونتمسّك بأرفع الحقائق شأنًا أي إيمان الشّعب البولندي الّذي ما تزعزع لا تحت حكم نازيّ ولا روسيّ ولا سوفياتيّ وقوّة "كنيسة الدّهاليز" في حين كانت الكنائس مغلقة وكذلك المدارس الكاثوليكيّة. وقبل أن يحصل في دول أخرى من أوروبّا الشّرقيّة، رفعت بولندا علم الحرّيّة والاستقلال، لا بالسّلاح، بل بالفكر البولنديّ المسيحيّ الصّميم ولواء الإنجيل الّذي حمله، ببطولة نادرة، ابن بولونيا البارّ البابا كارول فويتيوا أي يوحنّا بولس الثّاني. وتعاون معه رئيس نقابة عمّال تطوّرت إلى مؤسّسة مقاومة وتحرّر هو النّقابيّ ليخ فاونسا.

وحتّى في عصر ضياع الأخلاق والتّقاليد والإيمان، أعلن رئيس الجمهورية البولندي السيّد المسيح ملكًا على بولندا والإنجيل المقدّس دستورًا. وتقهقه الملحدون وضحك "العلمانيّون" والدّهريّون ملء أشداقهم. وقاومت بولندا التّيّار الـ"بنوروبيّ" الذي يريد أن يذيب الهويّات القوميّة والانتماء الوطنيّ. واستمرّت بولندا، كما يكتب المؤرّخ الأمريكيّ تيموثي سنايدر، في تأكيدها لهويّتها وتمسّكها بوطنها، مهما كلّف الثّمن وثقلت الضّغوط والعقوبات وسائر أشكال الابتزاز. ولا عجب أن تقف بولندا مدافعة ببسالة عن هويّتها وقوميّتها وقيمها وتقاليدها، وقد سكبت لأجلها الدّم الثّمين وذرفت الدّمع السّخين لاستعادة سيادتها وحرّيّتها واستقلالها. ونسأل: متى سيحدث هذا لنا، وخصوصًا في هذه الفترة حيث يعلن أشقّاؤنا أنّ الأولويّة ليست لنا كفلسطينيّين وأنّ جوهر الصّراع مع إيران؟

خاتمة

بين "صفقة القرن" و"إيران العدوّ الأكبر"، يقبع شعبنا حائرًا صابرًا لا يرى للنفق من نهاية ولا للقيد أن ينكسر. ونرجو أن تتفرّغ لنا شعوبنا العربيّة بعد أن تكون قد قهرت الخصم الفارسيّ!