موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الإثنين، ٢٤ فبراير / شباط ٢٠٢٠
بعد 75 عامًا... الأمم المتحدة عجوز بحاجة لتجديد شبابها
هل بات العالم في حاجة حقيقية لمراجعة أوراق وأفكار وميثاق الأمم المتحدة بشكلها الحالي؟

إميل أمين :

 

في أوائل يناير (كانون الثاني) المنصرم أطلقت منظمة الأمم المتحدة الدعوة لحوار عالمي في مختلف المجالات، بشأن مستقبل العالم ودور التعاون في بناء مستقبل أفضل للجميع، وفي إطار مبادرة الاحتقال بالذكرى الخامسة والسبعين لإنشاء الأمم المتحدة.

 

من الحاضر إلى الماضي، وفي 24 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1945 دخل ميثاق الأمم المتحدة حيز التنفيذ، والميثاق هو الوثيقة المؤسسة للمنظمة، ذلك أنه حين صادقت عليها غالبية الدول الموقعة، بما في ذلك الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن، جلبت الأمم المتحدة رسمياً إلى حيز الوجود.

 

يذهب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى أن ميثاق الأمم المتحدة يظل مرساة أخلاقية مشتركة في عالم مليء بالأحداث العاصفة، لا سيما أنه ما من بلد أو مجتمع قادر على أن يحل بمفرده المشاكل المعقدة التي تواجه عالمنا، وقد باتت البشرية في حاجة إلى توحيد الصفوف، لا للحديث فحسب، بل وللاستماع أيضاً، ولهذا يرى حتمية أن تنضم شعوب العالم برمتها إلى الحوارات التي ستقوم على هامش الاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين على مولد المنظمة الأممية، وبلورة مقترحات توضع أمام قادة العالم وكبار مسؤولي الأمم المتحدة في القمة الرفيعة التي ستعقد في 21 سبتمبر (أيلول) المقبل.

 

والثابت أن هناك أسئلة عديدة تطرح ذاتها بذاتها في هذا المقام، وفي المقدمة منها: هل بات العالم في حاجة حقيقية لمراجعة أوراق وأفكار وميثاق الأمم المتحدة بشكلها الحالي، لا سيما بعد النوازل والمستجدات التي ما كانت قائمة حين تم تأسيسها، أمور من قبيل الأزمة المناخية وعدم المساواة والأنماط الجديدة من العنف والإرهاب، والتغيرات الكبرى التي تطرأ على حياة الإنسان، وأجيال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وغيرها مما يتطلب التعاون عبر الحدود والقطاعات والأجيال، عطفاً على السعي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة والرؤية المشتركة للمستقبل الإنساني؟

 

الأمم المتحدة والعقد الاجتماعي

 

يمكن القطع بأن طرح عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة، إنما كان يستند في معناه ومبناه إلى نظرية الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو عن "العقد الاجتماعي"، وقد أضحى هناك حلم أممي بنشوء وارتقاء كيان إنساني مؤسسي دولي يلم شمل البشرية كلها في إطار واحد قولاً وفعلاً، وكأنه حكومة عالمية مهمتها أن لا تقع البشرية في وهدة الحروب الكونية مرة جديدة، وقد كانت الخبرات الأليمة لحربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين دافعاً جيداً في هذا السياق.

 

غير أنه لا بد من الإقرار بأن بعض الأخطاء الجوهرية جرت بها المقادير على سطح الأحداث، وذلك حين تشكلت الأمم المتحدة بصورتها الحاضرة، إذ غاب حلم المساواة الذي حلم به روسو، ولم تعد الدول الأعضاء على مستوى متساوي، وهذه طبيعة البشر في البحث عن التمايز والسعي وراء التراتبية، انطلاقاً من مقدرات ومقومات كل فرد، فقد أراد المنتصرون في الحرب العالمية الثانية أن يحتفظوا لأنفسهم بميزة خاصة تمكنهم من السيادة والريادة تجاه بقية الأعضاء، من هنا نشأ ما يعرف بحق النقض أو الفيتو للخمسة الكبار في مجلس الأمن: الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد السوفياتي، بريطانيا، فرنسا، وأخيراً الصين.

 

 دور فاعل رغم الخلل الظاهر

 

 على  أنه وعلى الرغم من الخلل البنيوي الذي شاب نشوء وارتقاء الأمم المتحدة منذ نشأتها وحتى احتفالها بـ75 سنة من عمرها، إلا أن أحداً لا ينكر أنها مثلت بشكل أو آخر حاضنة لدول العالم يلجأ إليها في أوقات المحن والأزمات.

 

والحقيقة التي لا مراء فيها أن هذا الكيان الأممي الكبير إنما عاش ولا يزال مرتبطاً ارتباطاً جذرياً بالتوازنات الدولية، بمعنى أن وزنها الاستراتيجي في أوقات ما كان أهم وأكثر مباشرة من غيرها من الأوقات، فعلى سبيل المثال لعبت الأمم المتحدة في عقود الحرب الباردة دور صمام الأمان لمنع اندلاع حرب نووية، وهو الدور الذي فقدته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد أخفقت في منع أميركا بمفردها من الخوض في حروب وغزوات خاضتها واشنطن خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كما الحال في أفغانستان والعراق، وكذا حروب الإرهاب المنفلتة.

 

مثّلت الأمم المتحدة كذلك، وعبر مجلس الأمن بنوع خاص شاهداً أقرب ما يكون إلى الحكم أو الوسيط في الصراع العربي الإسرائيلي، وإن جاءت بعض مواقفها ملتبسة كما الحال في القرار الأممي الشهير 242 الخاص بالأراضي التي استولت عليها إسرائيل عقب حرب 5 يونيو (حزيران) 1967، إلا أنه وفي كل الأحوال لا تزال تنظر قراراتها للقدس الشرقية على أنها أرض محتلة.

 

كما مثّلت أطراف الأمم المتحدة المختلفة أهمية استراتيجية على أصعدة الحياة كالتعليم والتربية عبر اليونسكو، والغذاء والزراعة "الفاو"، أو ما تقوم به على صعيد الصحة العالمية، وقضايا حقوق الإنسان، وقبل كل ذلك وبعده مواجهة تهديدات السلم العالمي، ومنع اندلاع الحروب الصغيرة منها والمتوسطة وصولاً إلى العالمية.

 

لكن على الرغم من ذلك تبدو هناك أصوات في الأفق ترى أن زمن الأمم المتحدة على هذا النحو قد ولى، وهناك من عبّر عن رأيه بشكل إيجابي وبنّاء، وآخرين ساروا في درب العداوة المطلقة والدعوة لإزالتها من المنبع.

 

الأمم المتحدة وعداء اليمين الأميركي

 

فقد العالم توازنه بعد الانهيار المخيف الذي حل بالاتحاد السوفياتي مع أوائل تسعينيات القرن الماضي، بل لا نغالي إن قلنا أن الصورة الثنائية التي جبل العالم عليها منذ زمن، قد تعرضت لاهتزاز خطير، فقد وجدت واشنطن نفسها القطب المنفرد بمقدرات العالم، وأضحت الأمم المتحدة ومن غير مواراة أو مداراة "مطية" إن جاز التعبير للقوة الدولية المتحكمة تفعل بها ما تشاء وقتما تشاء.

 

خلال العقد الأخير من القرن العشرين بدا وكأننا أمام إرادة أميركية سامية تتلاعب بمقدرات الأمم المتحدة، الأمر الذي تمثل في رفض واشنطن منح الأمين العام للأمم المتحدة وقتها الدكتور بطرس غالي ولاية ثانية، والإصرار على تغييره على  خلاف العرف المتوافق عليه أي ولايتين لكل أمين عام، وقد كان من الواضح أن وزيرة الخارجية الأميركية في ذلك الوقت مادلين أولبرايت، مصممة على معاقبة الأمين العام بطرس غالي، بسبب تقرير"مذبحة قانا"، الذي صدر بموافقته ومباركته وكشف أبعاد الاعتداء الإسرائيلي في لبنان.

 

لاحقاً جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001  لتمثل نقطة انفصال وربما انفصام في علاقة واشنطن بالمؤسسة الأممية، الأمر الذي دفع أحد صقور اليمين الأميركي جون بولتون، والذي سيضحى لاحقاً مستشار الأمن القومي للرئيس ترامب، أن يصرح بالقول: "لو قام أحدهم بهدم عشرة طوابق من مبنى الأمم المتحدة، فإن شيئاً لن يتأثر حول العالم"، ما يعني أن ليس لها دور يذكر ولا أهمية تقال حول العالم.

 

كان عداء اليمين الأميركي للأمم المتحدة مرتكزاً على منطلقات المحافظين الجدد، أولئك الذين رسم أساطينهم في نهاية التسعينات صورة للعالم في القرن الحادي والعشرين، عرفت بـ"وثيقة القرن"، وتهدف إلى صبغ العالم برمته بصبغة أميركية، أي أن لا يشارك أحد همينة أميركا على العالم، ومن الطبيعي أن تكون الأمم المتحدة عقبة كؤود في هذا الطريق الأيديولوجي الأحادي التوجه.

 

لاحقاً تغير شكل العلاقة الأميركية مع الأمم المتحدة بعد مجيء الرئيسين باراك أوباما،  ودونالد ترمب، وإن بقي السؤال: هل من أهمية بعد لهذه المؤسسة الدولية؟

 

الأمم المتحدة ودعاة فريق الإصلاح

 

يذكر كاتب هذه السطور أنه حين شارك في احتفالات الأمم المتحدة بيوبيلها الذهبي عام 1995 في نيويورك، كان الحديث عن مسألة الإصلاح قد انطلق، وقد كان الأمين العام بطرس غالي، هو أول من قاد التفكير في هذا الاتجاه، وقد وقر لديه وقتها أن إصلاح هيكل الأمم المتحدة هو الخيار الأنفع للبشرية برمتها، إصلاح يواكب متطلبات ومتغيرات العصر، ومن دون التضحية بخبرات العقود الماضية المتراكمة في أضابير وعقول القائمين على المؤسسة الأممية.

 

جاء السيد كوفي عنان تالياً ليكتب المزيد من الخطوات الإصلاحية، غير أن خلفه بان كي مون، لم يقدّر له متابعة الأمر على النحو المطلوب، وبدا وكأنه يتخوف من ردود الفعل الأميركية تجاهه شخصياً،  وقلقاً على حرمانه من ولاية ثانية، على الرغم من أن سنواته ربما كانت من أضعف سنوات المنظمة على الصعيد العالمي.

 

ولأن الأمم المتحدة قائمة على التراب الأميركي، وليس سراً أن واشنطن تتحمل عادة العبء المالي الأكبر، كما أن البعض يرى مخاوف أميركية من اتساع مساحة نجاحات الدبلوماسية الأممية باعتبار ذلك اختصاماً من حضورها ونفوذها وسيادتها على العالم،  فقد تساءل البعض من يقنع أميركا بأن الإصلاح في صالحها وليس ضدها؟

 

المؤكد أن أفضل من قدم جواباً على السؤال المتقدم الكاتب والدبلوماسي السنغافوري كيشور محبوباني، في كتابه المتميز "هل يستطيع الآسيويون أن يفكروا"، وعنده أنه ينبغي أن يتكلم العالم مع الأميركيين بشأن الأمم المتحدة باللغة التي يفهمونها جيداً، أي لغة المصالح والبراغماتية الأممية، وربما تساعدنا استعارة بسيطة على أن نفسر للأميركيين السبب الذي يجعل إصلاح الأمم المتحدة أمراً جيداً بالنسبة لمصالح الأميركيين أنفسهم، ذلك أنهم كالشعوب الأخرى يفهمون الحاجة إلى أنظمة المرور، وفي غياب هذه الأنظمة لن تؤدي الطرق السريعة والتقاطعات وظائفها، فلن تتحرك السيارات بصورة سهلة إن كنا نقود سياراتنا على جانبي الطريق كليهما، وهناك طرق جديدة تفتتح يومياً حرفياً ومجازياً بسبب العولمة، وستتزايد حركة البشر والمال والأفكار والبضائع  حول العالم بسرعات متضاعفة. هل لهذا بدا الموقف الأميركي في التغيّر فعلاً؟

 

ترمب وخطاب الأمم المتحدة في 2017

 

حين قدر للرئيس الأميركي دونالد ترمب الفوز بمنصبه تخوف العالم من توجهات الرجل القادم من دائرة المال والأعمال، رقيق الحظ والعلاقة مع عالم السياسة، والذي لا يهمه من أمر الدنيا سوى أن تعود أميركا الأكبر والأعظم، وأن يتراءى الحلم الأميركي في عيون العالم من جديد، ولم يعد يعنيه بحال من الأحوال أن تبقى الولايات المتحدة شرطي العالم أو "شريفه".

 

في هذا الإطار توقع الجميع سياقاً تصادمياً لا يحد ولا يمد من قبل ترمب جهة الأمم المتحدة، غير أن أول خطاب للرجل من على منصة المؤسسة الأممية خلال الجمعية العمومية في سبتمبر 2017 جاء على العكس من تلك التخوفات، ذلك أن الذين قدر لهم متابعة كلمته شاهدوا واستمعوا إلى رجل يريد بالفعل إعادة حالة التوازنات الدولية حتى تستقر أحوال المسكونة، وقد أشار أكثر من مرة في كلمته إلى أهمية الدور الذي تقوم به الأمم المتحدة على صعيد العلاقات الدولية وتشابكاتها بل وتعقيداتها المتزايدة يوماً تلو الآخر.

 

قبل بدء أعمال الجمعية العمومية لعام 2017 بيوم واحد طرح الرئيس ترمب خطة لإصلاح هيكل المؤسسة الدولية، الأمر الذي وجد ترحيباً واسعاً، وإن لم يكن إجماعاً أممياً، إذ أن الجميع ومن منطلق التجربة والحكم، ناهيك عن الخبرة مع السياسات الأميركية، قد بدأوا في التساؤل: هل يريد ترمب فعلاً وقولاً إصلاحات تعيد للأمم المتحدة حضورها ونفوذها حول العالم، أم أنه يسعى فقط لإحداث تغيرات داخل المبنى الزجاجي، تمكنه لاحقاً من السيطرة على العالم انطلاقاً من رؤيته التي تحدث عنها خلال حملته الانتخابية والتي تتمحور حول "أميركا أولاً"؟

 

 مهما يكن من شأن الجواب، فمن الواضح أن ترمب لا يناصب الأمم المتحدة العداء، لا هو ولا فريقه في البيت الأبيض، كما كانت الحال مع جورج بوش الابن وفريقه الذي ناصب المنظمة الدولية عداء  واضحاً  صريحاً غير مريح.

 

عالم مغاير وأمم متحدة مختلفة

 

يمكن الجزم بأن الدعوة التي أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بشأن إقامة حوار جاد حول واقع حال ومآل المنظمة الأممية أمر ينطلق من إدارك حقيقي للواقع المغاير الذي بات العالم عليه في العقدين الأخيرين على الأقل من القرن الجديد.

 

في هذا السياق لا يمكن للأمم المتحدة برؤاها القديمة أن تتساوق مع نظام عالمي جديد، أفضل من عبّر عنه، البروفيسورة آن ماري سلوتر، مدير تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأميركية، حين أشارت إلى عالم ينتشر فيه الإرهابيون، وتجار السلاح، وغاسلو الأموال، وتجار المخدرات، والمتاجرون بالنساء والأطفال، والقراصنة الجدد للملكية الفكرية... جميعهم يعملون من خلال شبكات عالمية، ومن هنا ينشأ السؤال: كيف للبشرية التعاطي مع مثل هذا الواقع المثير والخطير من غير غطاء عالمي قادر على التجميع والتنسيق وبلورة الرؤى ووضع الاستراتيجيات؟

 

عطفاً على ما تقدم يمكنك أن تضيف تحدياً جديداً وخطيراً لم يكن قائماً وقت انطلاق الأمم المتحدة في سيرتها الأولى، تحدي العالم السيبراني الموازي الذي لا يقل أهمية أو خطورة عن العالم الحقيقي الذي نحيا فيه، بمعنى أنه ليس هيّناً أو يسيراً أن تجرى معاملات على كافة الصنوف والضروب من وراء ظهر العالم الحقيقي، وأكثر تلك الإشكاليات هولا، التعاطي مع ظاهرة الإرهاب الأممي، ذاك الذي بات يتمدد وينتفخ وتصعب متابعته بشكل تقليدي، وعليه تجد الأمم المتحدة نفسها وآلياتها القديمة غير قادرة على مجاراة عالم جديد ونظام عالمي غير واضح المعالم.

 

التعددية الدبلوماسية في خطر شديد

 

لا يزال المؤمنون بأهمية الأمم المتحدة يحاولون استنقاذها من براثن الخطر المحدق بها، فعلى سبيل المثال وفي شهر أبريل (نيسان) الماضي احتفلت المنظمة الدولية وللمرة الأولى باليوم الدولي للتعددية  والدبلوماسية، والهدف هو الحفاظ على السلام الدولي، ذاك الذي تتقلص رقعته يوماً تلو الآخر حول العالم.

 

 تعني مسألة التعددية الدبلوماسية أن لا تبقى الأمم المتحدة رهن طرف بعينه، سواء ارتكاناً إلى مساهماته المالية، أو نفوذه وسطوته السياسية، وقد بلغ الأمر حد التفكير في نقل مقر الأمم المتحدة من على الأراضي الأميركية إلى دولة محايدة، إذ لم يعد مقبولاً عقلاً أو عدلاً عند الكثيرين أن تتحكم الولايات المتحدة الأميركية في منح التأشيرات الدبلوماسية للبعض وحجبها عن البعض الآخر، الأمر الذي يمكن تفهمه إذا  كانت الزيارة لأميركا نفسها، أما إذا كان الأمر يخص المشاركة في أعمال الأمم المتحدة، فإنه من غير المقبول أن تكون لدى واشنطن سلطة المنح والمنع، ما يعني أن هناك حاجة لبلورة كيان ما بعد أممي، يتجاوز الفوقية القومية لأي دولة في العالم.

 

لقد باتت التعددية البدلوماسية على شفا الهاوية، الأمر الذي أشارت إليه كاترين بولارد، المسؤولة الرفيعة في قسم الإدارة بالمنظمة الأممية بقولها: "حقاً ليس لدينا خيار، فالأولوية الرئيسية الآن هي لضمان الراتب التالي لموظفي الأمم الأمم المتحدة البالغ عددهم 37 ألفاً"، في إشارة لا تخطئها العين لما وصلت إليه الأزمة المالية للمؤسسة الدولية.

 

فوكاياما ورؤية لمؤسسات أممية جديدة

 

لم تغب أزمة الأمم المتحدة عن أعين المفكرين الكبار، حيث النقاش جار بين من يؤيدون الإصلاح، والفريق القائل بأن الأمم المتحدة بشكلها الحالي قد استنفدت الغرض منها.

 

غير أن المفكر الياباني الأصل الأميركي الجنسية فرنسيس فوكاياما، صاحب الرؤية الجدلية عن نهاية التاريخ، وعبر مؤلفه الشهير "أميركا على مفترق الطرق" يذهب إلى أن العالم اليوم لا يمتلك ما يكفي من المؤسسات الدولية التي تستطيع أن تسبغ الشرعية على العمل الجماعي، وعليه فإنه يتحتم إنشاء مؤسسات جديدة تستطيع أن توازن على نحو أفضل متطلبات الشرعية  والفاعلية.

 

هنا فإن الحل الواقعي الذي ينشده فوكاياما يكمن في إنشاء مؤسسات أممية جديدة، وتكييف المؤسسات الموجودة لتلائم الظروف الحديثة، وأنه ربما يكون من الملائم للسياسات الخارجية الأميركية أن تروّج لعالم مأهول بعدد كبير من المؤسسات الدولية المتداخلة، وربما أحياناً المتنافسة، وهو ما يمكن أن يدعى "تعدد متعددي الأطراف"، وفي هذا العالم لن تختفي الأمم المتحدة، ولكنها ستصير واحدة من منظمات متعددة تحتضن العمل الدولي المشروع والفعال.

 

على أن رؤية فوكاياما ليست جامعة مانعة، إذ يمكننا الإشارة إلى أن مستقبل الهيئة الأممية بات أيضاً مرتبطاً بمسألة إعادة النظر في أوزان الدول النسبية اليوم وبعد 75 عاماً من نشأتها، فلم يعد الكبار هم خمسة، فالعديد من القوى الإقليمية البازغة صارت غير راضية عن هذا المشهد مما يضعف اليقين بجدوى الأمم المتحدة، ولم يعد مقبولاً أو معقولاً أن تتحكم خمس دول في 180 دولة، من خلال حق النقض، والحديث ممتد كذلك لتوسيع مجلس الأمن.

 

الخلاصة... العالم في حاجة إلى أمم متحدة معاصرة، من غير إلغاء العتيقة دفعة واحدة.

 

(اندبندنت عربية)