موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٤ يوليو / تموز ٢٠١٨
بشار جرار يكتب من واشنطن: ’أصابع توما رهن الإشارة..‘

واشنطن – بشار جرار :

 

بمحبة ووجل، تلقّفت دعوة الأب رفعت بدر عبر صفحته على فيسبوك بالمشاركة في الاحتفال بعيد توما ودعوته الجليلة للشك، شك يقودنا إلى يقين يريح النفس المتعبة ويفرح القلب المنهك.

 

أخذتني تلك الدعوة الذكية عبر منصة التواصل "الافتراضي" إلى صورة "واقعية" وضعتني أسفار الدراسة أمامها وجهًا لوجه. كنت حينها طالب ماجستير دراسات سلام وحل نزاعات "علم اجتماع سياسي" في بريطانيا. كانت محض صدفة، مجرد دعوة سياحة داخلية دعا إليها مجموعة من زملائي في الجامعة من دول واختصاصات مختلفة. توجهنا عبر حافلة خاصة إلى منطقة سياحية خلابة في مقاطعة ويست يوركشاير. للأمانة لا أذكر اسم المدينة تحديدًا لكنها احتوت على قصر تمتلكه الأسرة المالكة في بريطانيا. أخذتنا المرشدة السياحية أفواجًا أفواجًا إلى قاعات القصر - القلعة وردهاته. كنت الوحيد بين زملائي المتخصص في حقل من الدراسات الإنسانية، فجميعهم مهندسون وبعضهم من رجال الاقتصاد والحاسوب. لفتت الحسناء المتمكنة المفوهة انتباهنا إلى عدم اللمس وفي بعض الأحيان عدم التصوير أيضًا خلال الجولة.

 

رويدًا رويدًا وأنا مأخوذ بجماليات وعراقة المكان، حتى وقفت بإجلال لن أنساه أمام لوحة عملاقة شدني فيها بحنو وقوة مشهد السيد المسيح. هي صورة من الصور ربينا على إجلالها وحبها في بيتنا ومدرستنا. لكن الصورة تظهر "شخصًا" لم أكن حينها لأذكره كان يضع أصبعه في جرح المسيح. تساءلت فأجابت إنه توما أحد تلاميذ "حواريي" المسيح، فسارعت إلى إكمال التفاصيل عنها. بأن عليّ التأثر وكذلك رفاقي وجميعهم من المسلمين لكن بمذاهب مختلفة ومواقف سياسية متباينة لا بل متحاربة في موضوع الساعة في ذلك الحين وهو إقامة السلام بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة إسرائيل ومن ثم معاهدة وادي عربة للسلام بين الأردن وإسرائيل.

 

استأذنتها بلمس اللوحة أو على الأقل أخذ صورة إلى جانبها فأبت بأدب جمّ مرحبة بنا مرة أخرى كطلبة فعرفتها على نفسي وعلى بلاد زملائي. لم تستطع أن تخفي فضولها فسألتني بطريقة غير مباشرة عن معرفتي بموضوع اللوحة "شك توما" فأجبتها مفتخرًا بأنني أردني من خريجي كلية تراسنطة. وأنني في بلاد يعيش فيها المسلمون والمسيحيون قصة إخاء حقيقية.

 

لكن رفاقي رعاهم الله – ونحن مقفلين عائدين إلى برادفورد، صدّعوا رأسي بأشبه ما يكون مؤتمرًا صحافيًا أو بالأحرى استجوابًا ساخنًا على غرار ما يشهده الكونغرس الأميركي بين الحين والآخر. تساءل أحبائي من سورية وفلسطين والعراق والبحرين ومنهم السني والشيعي والعلوي، اليساري العلماني والليبرالي الوطني والقومي الملحد، تساءلوا لم اختار والداك تعليمك في مدرسة مسيحية وعائلتك مسلمة، أجبتهم لم يشك والدي قط بنزاهة وكفاءة التعليم في المؤسسات المسيحية التبشيرية لأنهم ملتزمون كنيسيًا "بعدم التبشير" أبدًا وحصر "خدمتهم" الكنيسة في التعليم فقط أو في الطبابة والعلاج في حال كانت تلك المؤسسة طبية.

 

السؤال الثاني الذي ما زلت أذكره، كيف تعلم تفاصيل تلك الحادثة إذن؟ أجبت لأن المدرسة الأولى هي البيت والحارة، وفي بلادي أول طبق من فطور رمضان كان يصلنا من جارنا "المسيحي" المرحوم أبو بسام حداد وعندما تقطعت بنا السبل ذات صيف في زيارة إلى بغداد بتنا في دير راهبات الكلدان في كرادة مريم لأن والدتي من معلمات راهبات المنصورة في الكويت. لهذا لم أشك يومًا بأن هذه المشهد ما كان مجرد محاكاة فنية لمواجهة معرفية لاهوتية غاية في الدقة والتعقيد قد تمضي حياة كلها دون معرفتها معرفة اليقين.

 

كم أحزنني يومها وجود صديق بيننا من الملحدين، والله أعلم بحاله وإيمانه الآن فقط انقطعت سبل التواصل بيننا. طعن ذلك الصديق بحربة شكه مصداقية المشهد أصلاً وتفصيلاً ليؤيده الجميع بحراب من نوع آخر تراوحت بين الشك والتشكيك والإنكار. وجدت نفسي يومها محاصرًا فاستسلمت مداعبًا وقلت: يا جماعة روقوا وكل واحد ترى "معلق من عرقوبه".. شرحت لهم معنى المثل الشعبي وأننا في النهاية سنجد أنفسنا وحدنا أمام الحق والحقيقة ولكل الحق في الاختيار مع كل الاحترام. وبالفعل تابعنا المسير وأيامها لم تكن خدمة الجي بي إس موجودة وكان اعتمادنا الكلي على مساعد السائق أحد شباب الشلة الحاذقين في قراءة الخرائط الإرشادية.

 

وصلنا بالسلامة وكان قائدنا يدعى عبيدة ومساعده طلال وكلاهما مهندسان الأول مختص بعلم لم يكن لي سابق علم بوجوده وهو علم "الموثوقية الصناعية". خرج المارد الصحفي من فمي وتساءل كيف عرفت طريق العودة ولم تخف؟ قال "ولو" "باطل" باللهجة السورية. كان صاحبي واثقًا بقيادته وواثقًا بمساعده. لم يشككا ببعضهما البعض ونحن الركاب من الأردن وفلسطين والبحرين والعراق لم نشك بهما ولا بالخارطة ولا بطرق إنجلترا ولا بسائقي المركبات التي صدفناها خلال مسيرة نحو مئتي كلم. يا ربي يا إلهي كم نحن واثقون وشكاكون على "كيفنا"، فارحمنا وخذ بأصابعنا إلى حيث اليقين..