موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٤ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٤
بارولين في الأمم المتحدة: من الخطأ التفكير بلغة "صراع الحضارات"

جاني فالينتي، نقلها إلى العربية سامح مدانات :

في الخطاب الذي ألقاه في اجتماع الجمعية العمومية التاسع والستين للأمم المتحدة، أكد أمين سر حاضرة الفاتيكان، الكاردينال بيترو بارولين بأنه بناءً على القانون الدولي، "فإنه أمر مشروع وعاجل في نفس الوقت أن يُصَار إلى إيقاف العدوان من خلال العمل المتعدد الأطراف والاستعمال المناسب للقوة". وقد اعتادت بعض وسائل الإعلام الرئيسية على تفسير الحقائق في مجموعة من الأطر المعينة لدرجة أنهم قاموا بتفسير تلك الجمل القليلة التي تلفظ بها الكاردينال، وقدموها على أنها مباركةٌ ضمنية من الفاتيكان في صالح أمريكا للتدخل ضد مجاهدي الدولة الإسلامية.

بالحقيقة، فقد تكلم الكاردينال الإيطالي عن عدد من الأمور الأخرى. وقد أعطى خطابه المطول نظرة عامة، رسمية وموثوقة وصريحة عن الطريقة التي يرى بها الكرسي الرسولي وضع شؤون دول العالم اليوم. وتُظهر مفهوماً واضحاً لإجراءات تاريخية معقدة بدأت الآن بالظهور للعيان. وتُبين أجزاء كثيرة من خطابه بأن عقلية الكرسي الرسولي تبعد عدة سنوات ضوئية عن بعض الأطر الأيديولوجية الغربية البدائية، والتي تم تكييف تفسير الحقائق على غرارها في السنوات الأخيرة.

تقدير الكرسي الرسولي للأمم المتحدة المُجَدَّد

وفي مستهل كلمته، أكد بارولين أن البابا فرنسيس سار على خطى أسلافه في "احترام وتقدير الأمم المتحدة كأداة لا يمكن الاستغناء عنها لبناء أسرة حقيقية في الشعوب". ولم تتطرق أي من فقرات الخطاب إلى ذكر أزمة إدانة لجنة الأمم المتحدة لحقوق الأطفال القاسية ضد الاعتداء الجنسي من قبل رجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية. وبدلاً من ذلك تكلم الكاردينال بارولين عن "الإهمال" وهي الكلمة المرادفة "لعدم المسؤولية" التي أظهرتها الأمم المتحدة، والتي بقيت سلبية في وجه الاعتداءات التي تعاني منها الشعوب العزل والغير قادرة على حماية نفسها.

وتكلم عن "الشكل الجديد للإرهاب" والتي هي ظاهرة عالمية. واسترسل قائلاً: "نحن نشاهد ظاهرة جديدة، ويجب ألا يُنظَر إليها على أنها داء شائع في بعض البيئات الإنسانية، بل بالحري، أن يُنظر إليها من ناحية بعدها العالمي. وأضاف أمين سر حاضرة الفاتيكان قائلاً: "لم يعد الأمر يقتصر على أنه دول أو جماعات سياسية تستعمل الارهاب كأداة"، مشيراً ضمنياً إلى الجهاديين في الدولة الاسلامية. "وهذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها تنظيم إرهابي "بتهديد جميع الدول" متعهداً بحلِّها واستبدالها بحكومة شبه دينية عالمية"، وتستعمل وسائل عالمية لتوظيف المرتدين، تستقطب شباباً من سائر انحاء العالم، خاب املهم بسبب انتشار اللامبالاه وندرة القِيم في المجتمعات الأكثر ثراءً.

إدعاء "صراع الحضارات" هو "سردين احمر"

رَفَضَ الشخص الذي اختارة البابا فرنسيس أميناً لسر الدولة رفضاً قاطعاً الأيدولوجيات التي يُلوح بها حول تأثير الدوائر الغربية على أنها مفاتيح لفهم الأحداث الجيوسياسية للخمسة عشر سنة الماضية، نافياً كونها مضللة وضارة. واستطرد بارولين مخاطباً الأمم المتحدة قائلاً: بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، قامت بعض وسائل الإعلام "والمفكرون العِضال" بالمُبالغة في تبسيط تلك اللحظات المأساوية بتفسير كل الحالات التي نجمت عنها بمفهوم "صراع الحضارات". وقد تجاهلت هذه النظرة التجارب طويلة الأمد والعميقة في العلاقات الجيدة بين الثقافات والمجموعات العرقية والأديان، ومن خلال هذا المنظار قامت بتفسير حالات أخرى معقدة مثل مسألة الشرق الاوسط وتلك الصراعات الأهلية التي تحدث حالياً في أماكن اخرى. "وقد تم في بعض الأحيان تفضيل بعض الحلول الأحادية الجانب على الحلول التي ترتكز على القوانين الدولية". "وإن الأساليب المعتمدة بهذه الطريقة، لم تقم دائماً باحترام النظام القائم أو الظروف الثقافية المعينة للشعوب". إن مفهوم صراع الحضارات، اعتمد أو يعتمد على المخاوف والأحكام المسبقة القائمة للشعوب، مما يؤدي إلى ردود فعل تتصف بطابع كراهية الأجانب، ثم تعمل على تعزيز نفس المشاعر في قلب الإرهاب ذاته.

لا" للعَسْكَرَة"

"إن الطبيعة العالمية لهذا الشكل الجديد من الإرهاب" الذي لا يعرف الحدود "تُبين بالضبط السبب الحقيقي وراء تقديم، الإطار القانوي الدولي للوسيلة الحيوية الوحيدة للتعامل مع هذا التحدي العاجل. وهذه الحقيقة تتطلب مجلس أمن مجدد يأخذ على عاتقه تعزيز السلام والحفاظ عليه".

إن الامم المتحدة مدعوة إلى العمل بناء على نظامها الأساسي للقيام "بمسؤوليتها لحماية" الشعوب الغير قادرة على الدفاع عن نفسها. وفي هذا السياق، ومعيداً إلى الذاكرة التصريح الذي أدلى به سابقاً مندوب الكرسي الرسولي لدى الأمم المتحدة، قال الكاردينال بارولين: يرغبُ وفدُ بلادي أن يعيد إلى الأذهان أن إيقاف العدوان بواسطة التدخل العسكري والاستعمال المناسب للقوة هو أمر مشروع وعاجل". ومشيراً إلى مبادئ مجلس الأمن وشروط العضوية فيه، لم يُبدي أمين سر حاضرة الفاتيكان أي دعم للتدخل الأمريكي العسكري في سوريا والعراق. ومشيراً إلى بنود محددة في ميثاق الأمم المتحدة، قال بارولين: إن "المشاركين الإيجابيين والسلبيين من هذا النظام هم كل الدول التي تضع نفسها تحت سلطة مجلس الأمن، والملتزمين بعدم الانخراط في أعمال الحرب دون موافقة المجلس نفسه". "وحيث أنه لا يوجد نِصاب قانوني يبرر إتخاذ إجراءات عسكرية أحادية الجانب خارج نطاق حدود المرء، فبالتالي ليس هناك شكٌ في أن مجال الاختصاص يقع على عاتق مجلس الأمن".

"الإجراءات التي تتم بموجب تفويض من الأمم المتحدة تتطلب "موافقة وإشراف الدولة التي يُمارس فيها استخدام القوة" وإلا تسببت تلك القوة في عدم بالاستقرار إقليمياً ودولياً. وهو ما يوحي بأنه وفقاً للقانون العالمي فإن الضربات الجوية ضد المجاهدين المتمركزين في الأراضي السورية، لا تكون مشروعة إلا إذا جاءت بموافقة سوريا عليها.

لا "للنماذج السياسية المُسبقة"

وشدد بارولين في خطابه أمام الجمعية العمومية قائلاً: "إن الهدف الأساسي من ميثاق الأمم المتحدة، "هو تجنب ويلات الحرب للأجيال القادمة. إن الهيكلة القانونية لمجلس الأمن بجميع محدودياتها وعيوبها، قد تم تأسيسها لهذا السبب بالذات. هناك حاجة ماسة إلى استراتيجيات مبتكرة لمعالجة حالات الطوارئ الجديدة التي تسبب بها جزئياً الإرهاب العالمي، وهناك حاجة إلى إعادة تفعيل الآليات التي تستخدمها الأمم المتحدة لمنع الحرب ووقف المعتدين وحماية السكان ومساعدة الضحايا". وكان بارولين حريصاً أن يشير إلى أن "ما نحتاجه هو نهج سياسي بعيد النظر، لا يَفرض بشكل صارم نماذجاً سياسية مسبقة تستهين بمشاعر الأفراد من الشعوب. وقال بارولين إن الكرسي الرسولي يؤيد إتخاذ "نهج متعدد الأطراف". وأردف قائلاً: "إن أية ستراتيجية تتركز على فرض نماذج ثقافة شمال الاطلسي على بقية العالم، لا تفعل شيئاً للمساعدة في تعزيز النهج المذكور". "ليس دور المنظمات العالمية أو الدول أن يخلقوا ثقافات جديدة، وليس من الممكن فعل ذلك. وكذلك فإنه ليس مكان الحكومات هنا أن ينصبوا أنفسهم متحدثين باسم الثقافات. كما أنهم ليسوا هم المعنيين وليسوا الجهات الفاعلة الرئيسية المسؤولة عن حوار الثقافات والحوار بين الأديان".

مكافحة "الإرهاب المالي" أمر حسَّاسٌ ايضاً

وفي الجزء الأخير من خطابه، قال الكاردينال بارولين: "ليست مسؤولية الأمم المتحدة حماية السكان العزل، ومواجة الإرهاب والكوارث الطبيعية فقط، فالشعب يحتاج أن يُدافع عنه أيضاً ضد الأنواع الاخرى من الاعتداءات، "والتي هي أقل ظهوراً للعيان". نظامٌ مالي تحكمه التكهنات وتعظيم الأرباح فقط، أو نظام يُعتبر الأشخاص فيه مجرد سلع إستهلاكية في ثقافة المهملات، يُعتبر في بعض الحالات بمثابة إهانة للكرامة الإنسانية. وبناءً عليه فإن الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها لديها مسؤولية عاجلة وخطيرة تجاه الفقراء والمستبعدين، وأن تضع في اعتبارها دائماً أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية هي شرط أساسي للسلام.