موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٢١ أغسطس / آب ٢٠١٩
الهروب من الذات والأزمات

إبراهيم غرايبة :

ثمة عمليات هروب واسعة وشاملة في المجال العام من القضايا والأزمات الحقيقية التي تواجهنا في الموارد والأعمال والخدمات الأساسية إلى قصص وإشاعات وقضايا ونقاشات وجدالات لا تضر ولا تنفع، وليست ذات شأن في حياة الناس وقضايا البلد وتحدياتها وفرصها، ويستوي في هذا الهروب الحكومة والنواب والمجتمعات والجماعات والأحزاب والنقابات والأفراد، لا أحد يرغب في الجدل والتفكير بشأن التعليم والمدارس والجامعات والتي تمعن في التراجع، الانهيار ومستقبل الأعمال والمهن والأسواق المعرضة للانحسار أو الصحة والمستشفيات والخدمات الصحية في المراكز الطبية والعيادات التي تترهل وتعجز عن أداء أعمالها ومواجهة الضغوط عليها، أو الرعاية الاجتماعية وأوضاع كبار السن والمعوقين في البلد، ونكتفي بدلا من ذلك في عمليات وعظ وانتقاد أو اقتراحات لا يستمع إليها أحد.

والحال أنها ليست ظاهرة متصلة بالوعي المتدهور بالأولويات والمصالح الأساسية بقدر ما هي فقدان الأمل والقدرة التماسك في مواجهة التحديات الأساسية، ومن ثم فإن الحلّ ليس في التوعية والإرشاد، فالأوهام التي تنشئها ظروف اقتصادية واجتماعية لا يمكن التخلي عنها بدون تغيير الظروف والبيئة المنشئة لها. والأمم تنشئ حيلا دفاعية لتغطي انسحابها وعجزها على نحو لا تعترف به أو لا تدركه بوضوح.

وهناك نزعة إنسانية عامة للبحث عن حلول لأزماتنا خارج أنفسنا حتى عندما نكون نحن السبب في الأزمة، يقول الفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثورو (1817 – 1862): “عندما يشكو المرء شيئا يحول بينه وبين القيام بواجباته حتى عندما يكون ألما في أمعائه.. فإنه يبادر إلى محاولة إصلاح العالم” وعدم الرضا في حد ذاته لا ينشئ دافعا للتغيير كا يقول اريك هوفر، لكن يجب ان تتضافر معه عوامل أخرى، وأحد هذه العوامل هو الإحساس بالقوة، فالذين يخافون من محيطهم لا يفكرون في التغيير مهما كان وضعهم بائسا. وامتلاك القوة لا يكفي للتغيير، ولكن لا بد من الإيمان المطلق بالمستقبل، وعندما يغيب هذا الإيمان تصبح القوة داعمة للأوضاع القائمة ومناهضة للتغيير، فالراغبون في التغيير يوقدون الآمال الجامحة.

ويلاحظ هوفر أنه يصعب على الذين يعتقدون أن حياتهم فسدت أن يستهويهم تطوير أنفسهم مهما كان احتمال حصولهم على فرص أفضل، فلا شيء ينطلق من النفس التي يكرهونها يمكن أن يكون جيدا أو نبيلا، وشوقهم العميق إلى حياة جديدة، ومعنى جديد لقيم الحياة لا يتحقق إلا بانتماء إلى قضية مقدسة، والتماهي مع جهود الحركة ومنجزاتها ومستقبلها يمنحهم الشعور بالكرامة والثقة. إن الإيمان بقضية مقدسة هو محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا، وكلما استحال على الإنسان أن يدعي التفوق لنفسه كان أسهل عليه أن يدعي التفوق لأمته أو دينه أو عرقه أو قضيته المقدسة، وينزع الناس إلى الاهتمام بشؤونهم الخاصة عندما تكون جديرة بالاهتمام، وعندما لا يكون لديهم شأن خاص حقيقي يهتمون بشؤون الآخرين الخاصة، ويعبرون عن اهتمامهم هذا بالغيبة والتجسس والفضول.

فالاعتقاد بالواجب المقدس تجاه الآخرين كثيرا ما يكون طوق النجاة لإنقاذ الذات من الغرق، وعندما نمد يدنا نحو الآخرين فنحن في حقيقة الأمر نبحث عن يد تنتشلنا، وعندما تشغلنا واجباتنا المقدسة نهمل حياتنا ونتركها خاوية بلا معنى، ما يجذب الناس إلى قضية جماهيرية أو مقدسة هو أنها تقدم بديلا للأمل الفردي الخائب، فالفقراء والعاطلون عن العمل ينزعون إلى اتباع الذين يبيعونهم الأمل قبل اتباع الذين يقدمون لهم العون، .. الأمل هو السبيل الوحيد لإدخال القناعة والرضا لدى المحبطين.

الغد