موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الإثنين، ٦ أغسطس / آب ٢٠١٨
المفكر عدنان المقراني يكتب: ’الشعبوية والأصولية وأمراض الديمقراطية‘

روما - عدنان المقراني :

يعيش العالم اليوم صعودًا لظاهرتَين مرتبطتَين عُضويًّا، هما الأُصوليّة والشَّعبَويّة. عادةً ما يُميَّز بينهما بأن الأولى دينية والثانية علمانيّة، ولكن الواقع أعقَدُ من هذا التصنيف. تبدو الأُصوليّة وكأنها شَعبَويّة دينية، كما تبدو الشَّعبَويّة وكأنها أُصولية علمانيّة. ما يَجمع الأصوليَّات والشَّعبَويّات هو اتِّخاذ الهُوِيّة أيًّا كانت: دينية أو قومية أو وطنية، مُرتكَزًا للخطاب السياسي، الذي يرمي إلى حشد الجماهير من أجل حماية الهُويَّة المهدَّدة. فهي ليست هُوِيَّة واثقة تعترف بتركيبها المتعدّد، بل هي هُويّةٌ خائفة، أو تصطنع الخوف، أُحاديّةٌ متجانسة، تخوض حربًا للبقاء ضد الآخَر الداخلي (أو ما يُسمَّى بالأقلِّيّات والأجانب)، أو ضد الآخَر الخارجي وراء الحدود.

المشكلة أن هاتَين الظاهرتَين قد اخترَقَتا العالم بأسره، في البلدان التي لديها تقاليد ديمقراطية عريقة، كما في البلدان التي تسعى نحو الدِّيمقراطية، أو تعيش بالفعل تحت وطأة الدِّيكتاتوريّة. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: إنْ كان مفهومًا أن تنتشر الظاهرتان في ظلِّ الدِّكتاتوريّات، والدِّيكتاتور من طبيعته أن يكون أُصوليًّا أو شَعبَويًّا حسب المصلحة واتِّجاه الريح، أفَلا يبدو غريبًا انتشارُهما في البلدان الديمقراطية؟ وما الأسباب التي أدَّت إلى ذلك؟

إن الدِّيمقراطية تُعاني الشَّيخوخةَ مِثل أية ظاهرة إنسانية أخرى، ما لم تُجدَّد بشكل مستمرّ. هناك مَن يشبِّه الديمقراطية بالزَّهرة، التي تحتاج إلى عناية يوميّة حتى تحتفظ بِرَونقها. إن المؤسَّسات الديمقراطية تترهَّل ما لم تَدعمها ثقافة وتربية ديمقراطيَّتَان. مستوى الوعي السياسي لدى المواطن مرتبط بمستواه الثقافي، والثقافة هنا ليست الشهادات الجامعية، بل نُضجَ الشخصية والرؤية النقدية، التي تمكّن المواطن من الاختيار والتدقيق فيما يرِدُه من معلومات. وهذا قد نجده عند العامل البسيط الذي يَعرف حقوقه، ويعرف كيف يطالب بها، ويناضل من أجلها، وقد لا نجده عند الأستاذ الجامعي، الذي يجنّد معارفه لخدمة السلطة!

مِن أمراض الديمقراطية النُّخبَويّةِ، حين يُصبح العمل السياسي -مع مرور الزمن- من اختصاص فئة قليلة، أيْ زعماء الأحزاب ومَن يدور في فلكهم. هذا النادي السياسي المغلَق، سرعان ما يتحالف مع النادي المهيمِن اقتصاديًّا، فتتَّحد نوادي المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة، وهذا هو مَدخل الفساد إلى الحياة السياسية. يُدعى الشعب إلى التصويت من حين إلى آخر، وتقوم فئة من الناس باحتكار العمل السياسي لِعُقود، بالتحالف مع القوى النافذة اقتصاديًّا. هنا قد تتدخَّل الشَّعبَويّة كحركة احتجاجيّة لكسر هذا الاحتكار، وإحداث بديل نُخبَويٍّ جديد. ظاهريًّا تبدو العملية إيجابية، بالنسبة إلى شعب سئم رؤية الوجوه نفسِها لِرَدَحٍ من الزمن. ولكن الشَّعبَويّة لا تمثِّل تغييرًا حقيقيًّا في هذه الحالة، بل هي عرَضٌ من أعراض هشاشة الديمقراطية، تَصِل أحيانًا إلى حدِّ تهديد وجودها، من خلال عودة اليمين المتطرِّف، الذي يملَؤُه الحنين إلى عهود الفاشيَّة والنازيّة وهيمنة الزعيم المنقذ. إنه بديل يتسلَّق الديمقراطية، ولكنه يُضمر أفكارًا لاديمقراطية، مِثل كراهِيَة الأجانب والعنصرية… هذا بالإضافة إلى إشاعة الأخبار الكاذبة، والتشكيك في كل معلومة تناقض المنظومة.

لقد أسهم في بروز هذه الظاهرة، انحسارُ اليسار على الصعيد العالمي. لا يعني ذلك أن اليسار كان بريئًا من أمراض الديمقراطية المذكورة، ولكنه كان على الأقلِّ يُحدث نوعًا من التوازن ضد القوى اليمينية، ويركِّز الخطابَ والثقافةَ السِّياسيَّيْن نحو قضايا العدل والمساواة والحرية. فهل مِن يسارٍ جديد يتدارك أخطاءه، ويُفعّل ذكاءه؟!

مِن أمراض الديمقراطية، تَغوُّل القوى الاقتصادية. وهي قوًى غير منتخَبة، تعمل في الخفاء وتؤثِّر في الطبقة السياسية، بل تَحكم أحيانًا من خلالها. فتكُون القوى المنتخَبة نوعًا من “الواجهة” لِلُوبيات أو مافيات، تَملك القرار وتتهرّب من الحساب. هنا تَبرز أهمية السُّلطة القضائية المستقلَّة، القادرة على محاربة الفساد المالي والسياسي. شجاعة القضاء في مواجهة الفساد، شرطٌ أساسي لبقاء الديمقراطية على قيد الحياة.

الشَّعبَويّة كما الأُصوليُّة، كِلْتَاهُما تُمثِّل خوفًا من عالَم يتغيّر بسرعة، انهارت فيه الأيديولوجيّات والمثاليَّات الحديثة. البحث عن ثَوابت للوقوف في وجه العاصفة، يأخذ شكل اللجوء إلى هُوِيّات دينية أو قومية “صافية ومتجانسة”. إنه اختراع تقليدٍ بعد انقطاع السَّنَد، تقليد مزيّف، يَحمل في طيَّاته الآثار السَّامّة للأزمة، أكثرَ ممّا يَعِد بخلاصٍ حقيقيّ منها. إنها أزمة الحَدَاثة الكاسحة للثقافات والهُوِيّات الموروثة، من دون بدائل إنسانية حقيقية. هنا لا ينفعنا الحنين، ولا مَفرّ من “اختراع” حَداثةٍ جديدة أكثرَ إنسانيّة، وأرحَبَ أُفقًا.

taadudiya.com