موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ١٤ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠
المطران يوسف توما يكتب من كركوك: في البدء كان الاتصال

المطران يوسف توما :

 

ميشيل سيرSerres  (توفي 2019) فيلسوف فرنسي موسوعي (touche à tout) يعنيه كل شيء ويندهش كالأطفال. تعلمتُ منه حكمة "أن في كل جسم ثلاثة: مادة، طاقة ومعلومة"، أي كل شيء اتصال وعلاقة تناديك وتقول: "إقرأني وتفاعل معي". وهذا ما علمتني الكتب والعلاقات. فلا يمكن فهم معنى الحياة إلا ضمن الاتصال بالوجود، هذه المنظومة هائلة وناطقة، والاتصال منذ البداية تفاعل وتأثّر، لكن من "يحرّك ساكنا يلزمه"، فالاتصال أحيانا ورطة، لأنه مسؤولية مستمرة، تكشف طبقات المعنى، والاكتشاف أمر جوهري لفهم ما حولنا، فوقنا، تحتنا وفي داخلنا أيضا، بل في أكثر الأماكن البعيدة والعميقة حيث نزل الانسان ليعود سعيدا، حتى السجين والمحجور في شقة صغيرة بسبب كورونا إذا فهم وعاش سيقول: "كانت أيامًا رائعة، تعلمتُ منها الكثير". في سنوات داعش 1014 – 2017 استضافت أبرشيتنا مئات طلاب وطالبات جامعة الموصل من كل الأديان وساعدناهم، كانت أياما صعبة لكن أغلبهم اليوم يقول: "كانت أجمل سنوات حياتنا!"، لا لأنهم نجحوا كلهم، بل لأنهم تعلموا الاتصال بالحياة وببعضهم.

 

قيل: "ما فاز باللذات إلا من كان جسورًا"، أي الشجاع، فالاتصال شجاعة كالرحالة القدامى والمستكشفين والتجار والعلماء. ومنذ أن اخترع غاليلو (1564-1642) مرقابه (التلسكوب)، ببضع عدسات صخرية ليرى أخاديد القمر، بدأت رحلة هائلة ولم تتوقف. يوم الثلاثاء 6/10/2020 منحت جائزة نوبل في الفيزياء للبريطاني روجر بنروز لاكتشافه "عن تكوين الثقب الأسود"، كما مُنحت لكل من الألماني رينهارد جينزل والأمريكية أندريا غيز "لاكتشافهما جسمًا" مدمجًا فائق الكتلة في وسط مجرّتنا. في حين قبل نصف قرن فقط، كان وجود الثقوب السوداء بحد ذاته مثيرًا للجدل. وقد عُرضت أجسام ضخمة غير مرئية للوهلة الأولى على صور مدهشة، علامة على التقدم بالاتصال لكشف أسرار الكون.

 

ثم اخترعوا المكروسكوب فاتصلوا بالأقرب والأصغر ليصلوا للبكتريا والفايروسات والذرة المشعة وفي نفس يوم 6/10/2020 مُنحت جائزة نوبل في الطب لكل من البريطاني مايكل هوتون والأمريكيين هارفي ألتر وتشارلز رايس "لاكتشافهم فيروس التهاب الكبد C". مما سيسهم "مساهمة حاسمة" في مكافحة مرض يُعَدُ "مشكلة صحية عالمية، تسبب تليّف وسرطان الكبد"، وتسبّب كل عام وفاة 400 ألف شخص في أنحاء العالم، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، ويُقدَر عدد الذين يحملون هذا الفيروس 71 مليون شخص بشكل مزمن. العلم إذن هو قابلية اتصال وتواصل مع الأكبر ومع الأصغر وهو رغبة بالتفاعل، تنادي كل إنسان وتقول لها: "تعال نتفاهم!".

 

يقول الكتاب المقدس منذ البداية اتصل الله بالكون من خلال "كلمة" (لوغوس) فخلقه، وهذا محتوى الأسفار كلها فسّرها يسوع وقال: "من له أذنان سامعتان فليسمع" (متى 11: 15). ماذا يسمع؟ كلمة هي فيك وفي قلبك... لكن للأسف، قد ينقطع الاتصال فيتوقّف بعضهم أو يبقى يكرّر ما سمع من الماضي فلا يعود يسمع الجديد، وكأنما الله سكت، أو تكلم مرّة واحدة فقط، والتكرار مصيبة الأديان يقتل الكلمة ويغرق في تفاصيل حروفها، إنه كالإعجاب لا ينتمي إلى الحب، لأنه يبقى خارجا في ساحة الوهم، عندها سيشعر الحبيب أنه أصبح غريبا، أو ضحية للملل والسهولة، لهذا يكاد الكل ينسى "شهر العسل"، ويفكر ماذا يأكل أو يشرب أو بالتفاهات اليومية...

 

العلم والدين إذن يتشابهان عندما يدخلان في امتحان حبّ الاتصال، إما نُتقِنُه أو يموتان، فتأتي الخيبة والحسرة والشعور بالحرمان، وتسود القسوة والحنين والبكاء على الأطلال والزمن الجميل، زمن عهد "الولدنِة" (فيروز). منذ طفولتي أحبّ الأغاني وأحلل كلماتها وأضحك، ففيها ما يضحك بحق، لأن كاتب تلك الكلمات نفسه قد لا يصدّق، خصوصا عندما سيدة مسنّة تقول: "خذني بحنانك خذني...". ونحن نتمايل طربا! هل هي رغبة بالاتصال أم وقوف وجمود وتأمل في خرائب الذاكرة والعمر؟

 

لم يحدث في زمان كزماننا مثل هذا الكم الهائل بالاتصال، الكل يتكلم ولا أحد يسمع، النشاز في النغمات والأصوات Cacophonie وفي عددها، حذرنا منه القدماء كأحيقار (ق 5 ق.م): "اسمع يا بنيّ..."، وتناولته التقاليد بأمثالها عن الكلام والصمت اللذَين نتدرّب عليهما، فنسمع بالرغم من الضجيج السائد... كما نلاحظ أن الطفل يشعر بأهمية الاتصال بمن حوله فيصرّ على جذب انتباه أمّه وهو يلعب، ثم يكبر فيستعطي جزءًا من "أذُن" سامعيه، بعدها يتوسّل، على شبكات الاتصال الاجتماعي، للحصول على "لايك" أو "لايكات"، ويزعل "من كل عقله" إن لم يهتم به أحد. كقول الاغنية: "قول بحبّك قول كرهتك... قول أي حاجة...". ويقصد أن اللامبالاة هي أسوأ ما يصيبنا في الحياة، عندما يموت الاتصال بين الأشخاص والأشياء. لذا قامت الثقافات بوضع "قوانين" للاتصال وهي مقياس لها.

 

لدى قبائل أفريقيا شجرة تقف وسط القرية يسمّونها "شجرة الكلام الذي لا ينتهي" palabre، في ظلها مناقشات، أخذ وعطاء، وهذا يربي الأجيال الصاعدة. منذ زمن العباسيين كثرت في بغداد "مجالس" كانت بمثابة "كليّات" تعليم تُنقَل عبرَها الخبرة من جيل إلى جيل، وحتى زمن قصير، قبل أقل من قرن كان عدد المجالس البغدادية يتجاوز 250 مجلسًا. إنه الديوان، واسمه يعني الكثير: مكان الكلام، ديوان الشعر، سجل الكتب، الرسميات، القاعة، مكان الملك والمحاسبة واللغة... كلها محاولات لترتيب الاتصال، لمجرد أن نقول أو نسمع شيئا فيه خير...

 

من أجمل اللوحات الفنية لوحة الخلق لمايكل أنجيلو (1475-1564) يخلق الله آدم مشيرا إليه بإصبعه: "أنت!" وآدم نصف نائم يبحث عن تلك اليد... تقول فرانسواز دولتو (1908-1988) عالمة نفس الأطفال: "بلا كلام الطفل يموت!" وهذا ما حدث في رومانيا وروسيا إبان الشيوعية كانت وفيات أطفال المياتم عالية جدا بسبب نقص الكلام والاتصال معهم، لهذا يأتي الحكم بالسجن الانفرادي، أقسى من عقوبة الاعدام، لأنه يحرم من الاتصال فيغرق المرء في الشقاء كما حدث لنيلسون منديلا 9 سنوات.

 

لكن الاتصال ليس كلمات فقط، فالطبيعة من حولنا تعلمنا الكثير: الاتصال بالشكل واللون والرائحة والحركة، لغة الجسد، كلها قد تتعرض لسوء الفهم أو التلوّث أو المرض: فيصبح الاتصال يتمركز على الذات (الجريحة) أو ينحصر باللغة، فيزداد سوء التفاهم. وفساد الكلمات يقتل الاتصال، أو يجعله محنطا. لأن التواصل الحقيقي مغروس فينا يفترش مساحة كبيرة في اللاوعي لدينا، يشعّ باستمرار من أرواحنا وأجسامنا وهفواتنا وزلات لساننا، وحتى الآن بالكاد تمكّن علماء النفس من اكتشاف اللاوعي واستخراج الكثير من الكمّ الهائل من الصراخ الذي في كل جسم حيّ!

 

ألم نلاحظ أن البيئة كلها تتصل: النبات والحيوان والجبال والأنهار والشلالات، تتواصل وتتفاعل تشعّ بما لا يوصَف، فتشعر أنك قريب من الخالق، بعضهم إزاءَها يصبح شاعرا، هذا ما يجعل الناس حتى الآن معجبين بالقديس فرنسيس الأسيزي (1182-1226) الذي كان يخاطب الماء والنور والشمس والذئب ويسميهم "إخوتي". لكن إذا كنتَ غريبا عن نفسك (تكاد تخرج من جلدك)، ستقل نسبة الاتصال لديك إلى حد كبير ولن تتحدث الطبيعة معك ومن خلالك. فالجزء الرئيس أو الفوري من الطبيعة العملاقة هو فيك ومن أجلك، الطبيعة تلبس جسمك وتتقمّصه، وهذا يحدّد الكلمات التي أنت تختارها للاتصال، لذا قال المسيح: "سوف تدانون على كل كلمة بطالة..." (متى 12: 36).

 

من الملاحظ في بلدنا والعالم هو التحوّل الكاسح من الريف إلى المدينة، فخلق ظاهرة تصحّر وتعب أثقل كاهل الناس وأتعبهم على مدى أجيال، إذ انحسر الاتصال مقتصرا على الاقتصاد (من ليس له فلس لا يساوي فلس). المدن هائلة تعيش مآسي وتضيع الوقت بالتنقل، فيختل توازن البشر فيها. أتذكر أن قسما من عائلاتنا في طفولتي بقي في القرية في الشمال حيث لم تصل السيارة، كانت الناس على الفطرة والقناعة وحبّ الحياة، بحيث كل مناسبة مدعاة "للدبكة"، وعندما أجبروا على ترك القرية إلى المدن، بقوا في السنوات الأولى على عادات جميلة يستغلون كل فرصة ليرقصوا ويغنّوا ويدردشوا. المدينة حزينة مهمومة ومحمومة، حيث الناس في عجلة، عصبيّون، متعبون، هواؤهم مسموم، يتصارعون، يهربون، يشتغلون بضجر، ويمرّون خلسة على كل شيء، ويحاول كل منهم مجرّد الحفاظ على سلامة عقله، وخصوصا نومه قليل بسبب الضجيج والقلق. لقد ذهب زمن البساطة والقناعة والضحكة والنكتة البريئة التي تتكرّر في القرية في كل جلسة ولا أحد يملّ منها.

 

للاتصال إذن تاريخ طويل، كان شفهيًا ثم حملته الكتابة، التي بعضها مقدّس يخاطب الحاضر والمستقبل، مسألة شخصية وجماعية، أصبح عبر الزمن يحتاج إلى قراءة و"تفسير"، اختلف المقدَس في المدينة وفي القرية وفي الشتات، فالتوازن صعب، لذا زحفت الأديان وقامت حركات إصلاح عديدة هي بالحقيقة إعادة دوزان لأوتار الدين، فحيثما تسيطر ديانة يقوم بالمقابل من هو ضدها كي يخلق التوازن. لذا كان يسوع شديدا مع الكتبة والفريسيين الذين أقحموا الدين في كل شيء "في النعنع والشبّث" (متى 23/23) وينسون الأهم، أي المحبّة. وعندما سألوه: "أأنت الآتي أم ننتظر واحدا آخر؟" (متى 11: 3)، لم يقل أنا أو آخر، بل أجاب بمفهوم عميق للاتصال، كعادته: "...العميان يبصرون، والعرج يمشون،... وختم بالقول: وطوبى لمن لا يشك فيّ"! لأن اختلال التوازن يكمن في التبعيّة، دينية كانت علمية أو اجتماعية، كتبعيّة الطفل الذي يرفض الفطام ويتعوّد الرضاعة ويبقى على مفاهيم والديه ولا يرفع عينيه لينظر إلى "السماوات التي تنطق بمجد الله، وإلى الأرض التي تخبر بعمل يديه" (مز 19/1).