موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٣ مارس / آذار ٢٠١٩
المطران كريكور كوسا: الصوم ترويض للروح عبر الجسد

القاهرة - أبونا :

إلى إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات،

وأبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في الإسكندرية وأورشليم والأردن،

الصّوم الأربعيني الكبير، معروفٌ بالصّوم الفصحي، يقود مسيرتنا الروحيّة نحو ملكوت الله، المتجلي في السرّ الفصحي، سرّ موت المسيح لفدائنا وخلاصنا من خطايانا، وسرّ قيامته المجيدة من بين الأموات لتقديسنا بالحياة الجديدة "فإذا كان أحدٌ في المسيح، فإنّهُ خلقٌ جديد. قد زالت الأشياءُ القديمة وها قد جَاءَت أشياءٌ جديدة" (قورنتس الثانية 5: 17-18) وقد رافق الصوم حياة الكنيسة منذ بداياتها، متمثّلة بصوم المسيح رأسها، الذي صامَ أربعين يومًا وأربعين ليلة في البرّيّة (متى 4: 1-11) استعدادًا لبدء رسالته الخلاصيّة. لكنّ ممارسة الصلاة والصوم والصدقة رافقت مسيرة شعب الله منذ القديم، وكان الله يدعو الشّعب إليها على لسان الأنبياء والرُسُل.

لقد امتازت كنيستنا الأرمنية، منذ عهد أبينا القدِّيس كريكور المنوِّر (غريغوريوس المنوِّر) حتى يومنا، بروحانيّة الصلاة والصوم والصدقة، وهذا ما جعلها تصمد بوجه كلّ المصاعب والتحدّيات والاضطهادات. فكم من أبناء كنيستنا رجالاً ونساءً نهجوا نهج التقشُّف والإماتة والصلاة وعمل الخير. وقد بلغ هذا النّهج ذروته في حياة النسّاك والرهبان الذين ما انفكّوا يواصلون هذا التّراث من جيلٍ إلى جيل حتّى يومنا. بفضل صلواتهم وتقشّفاتهم وأصوامهم والخير الرّوحي الذي يفيضونه بمَثَلهم وإرشاداتهم.

مفهوم الصّوم وغايته وثماره

- مفهوم الصوم:

من الناحية الجسديّة، الصّوم هو الامتناع عن الطعام والسّوائل من نصف الليل حتّى الظّهر، والانقطاع عن أكل اللّحوم ومشتقّاته: الجبن والبيض والحليب وإلخ...

ومن الناحية الروحيّة، هو قوت النّفس وغذاء الرّوح ودواء يُعطي الخلاص والتكفير عن الخطايا ويقترن بالصّلاة والإماتات فيُصبح الطّريق المختصَر للوصول إلى السّماء، على حد قول القديس أمبروسيوس.

ومن الناحية الاجتماعيّة، هو التّصدّق عيّنًا ونقدًا على المحتاجين، في مختلف حاجاتهم، كما يصفها الربّ يسوع في إنجيل القديس متّى: "كنتُ جائعًا، عطشانًا، عريانًا، غريبًا، مريضًا، سجينًا... الحقّ أقولُ لكم: كُلّما صَنعتُم شيئاً من ذلك لواحِدٍ من إخوتي هؤلاء الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 35:25-٤٠). لا تقتصر هذه الحاجات على البُعد المادّي فقط، بل تشمل أيضًا الشَّأن الرّوحي والثّقافي والمعنوي.

- غاية الصوم:

الغاية من الصّوم إعداد الذّات للعبور مع المسيح الربّ في فصحه، من حالة الخطيئة إلى حالة النّعمة، "من الإنسان العتيق إلى الإنسان الجديد" (كولسي 9:3-10) كما يُسمِّيه بولس الرّسول. أليست الطّبيعة، بعد أن تجرّدت أشجارها من عتيق أغصانها وورقها أثناء الشتاء تدخلُ الآن زمن الرّبيع لتلبس ثوبًا جديداً، وتزهر لكي تعطي ثمارها لحياة البشر؟ فكم نحنُ بالأحرى أفضل منها؟ كما يقول يسوع: "أفلستُم أَنتُم أثمَنَ منها كثيراً" (متى 27:6).

الصّوم ضرورة من أجل بلوغ غايته، يقول لنا القديس بولس الرّسول: "فليس ملكوتُ اللهِ أكلاً وشُربًا، بل برٌّ وسلامٌ وفرحٌ في الرّوحِ القُدُس" (رومة 17:14)، مُركّزاً على كلام الرّبّ يسوع الذي قاله للمجرِّب: "ليس بالخُبزِ وحدَه يَحْيا الإنسان، بل بكلِّ كلمةٍ تخرُجُ من فمِ الله" (متى 4:4).

لا يتوخّى زمن الصوم فرض أصوام وإماتات تفوق طاقتنا البشرية لأنّ الربّ يريد منّا "رحمةً لا ذبيحة" (متى 13:9)، وألا تكون خياراتنا في الأطعمة والأشربة سببًا للخصام مع إخوتنا لأنّ المحبّة هي التي تجب أن تحكم أوّلا في كلّ أصوامنا وأعمالنا وتصرفاتنا. وهذا ما يُعبّر عنه رسول الأمم القدّيس بولس الرسول بقوله: "فإذا حَزِنَ أخوكَ بتَناوُلِكَ طعاماً، فَلَم تَعُدْ تَسلُكُ سبيل المحبّة، فلا تُهلِكْ بطعامِكَ من مات المسيحُ لأجلِهِ، فلا يُطعَنْ فيما تنعمونَ بهِ" (رومة 15:14-١٦). لكن ما يجب التيقّظ له أيضًا هو ألا يتحوّل أكلنا وشربنا ليكون سبب عثرة لأخينا (رومة 21:14). بل فلتتحول كلّ أصوامنا لمجد الله ومحبّةً وخدمةً للقريب.

الصّوم وسيلة للانتصار على الشيطان والجسد والأهواء الرّديئة:

الربّ يسوع انتصرَ بصيامه على تجارب الشيطان الثلاث (متى 1:4-١١)، الذي حاول إغراءه للسّقوط في شهوات العالم التي يختصرها يوحنا الرّسول بثلاث: شهوة الجسد بتجربة تحويل الحجارة إلى خبز بقوّة يسوع الإلهيّة، وشهوة العين بتجربة الحصول على جميع ممالك الدّنيا ومجدها، وشهوة كبرياء الحياة بتجربة رمي يسوع ذاته من أعلى جناح الهيكل (يوحنا الأولى 16:2)، فيحمله الملائكة على أيديهم لئلّا تصطدم رجله بحجر (متى 5:4). وهكذا ترك لنا الرّبّ قدوةً في ذاته "فلهذا دُعيتُم، فقد تألَّمَ المسيحُ أيضاً من أجلِكم وتركَ لكم مِثالاً لِتقتَفوا آثارَه" (بطرس الأولى 21:2)، لكي نسيرَ بالصّوم نحو الملكوت وننتصر على تجارب الحياة، يوصينا القدّيس مكاريوس الكبير قائلاً: "صوموا مع المخلّص لتتمجّدوا معه وتغلبوا الشيطان".

يُخبر الآباء القدّيسون أنّ الشّهداء، عندما يبلغهم خبر اليوم الذي سينالون فيه إكليل المجد، لا يذوقون شيئًا في اللّيلة السّابقة، ولا يتناولون طعامًا ولا شراباً، ولكنّهم ينتصبون من المساء إلى الفجر في الصّلاة، متيقِّظين في تمجيدٍ وشكرٍ وحمدٍ، بتراتيل وتسابيح وألحان روحيّة شجيّة، مسرورين، منتعشين مترقِّبين تلك اللّحظة، يتوقون وهم صائمون إلى ضربة السّيف التي ستُكلّلهم بإكليل الشّهادة والمجد على يد ربنا ومخلّصنا يسوع المسيح.

الصوم في تعليم الإنجيل والكتب المقدّسة:

يقول القدّيس أوغسطينوس: "أتريد أن تصعد صلاتك إلى السّماء، فامنحها جناحَين، هما الصّوم والصدقة". الصّوم والصلاة والصّدقة ثلاثة متلازمة ومترابطة وهي شريعة إنجيليّة دعا إليها الرّبّ يسوع في إنجيل القدّيس متّى (راجع متى 1:6-١٨)، كتعبير عن التوبة الداخليّة، وارتداد القلب إلى الله، والرجوع عن الخطيئة. وإلّا أضحت هذه الأفعال الخارجيّة عقيمة وكاذبة. والتّوبة الدّاخليّة هي التي تدفع إلى التّعبير عنها بعلامات وأفعال ومبادرات.

إنّ ارتداد القلب هو في البداية عمل نعمة من الله تُرجع قلوبنا إليه، كما اعتادَ أن يُصلّي الأنبياء قائلين: "أردُدْنا إليكَ يا ألله، فنرتدّ" (مراثي 21:5). فالله يعطينا القوّة لنبدأ من جديد. عندما نكتشف عظم محبّة الله، يضطرب قلبنا من هول الخطيئة وثقلها، فنخشى الإساءة إليه والابتعاد عنه (كتاب التعليم المسيحي للكنيسـة الكاثوليكية، رقم ١٤٣٢).

إنّ التعبير عن التّوبة وارتداد القلب يظهر في إذلال الذات ونكرانها أمام الله، لكي يتحنّن علينا. هكذا فعل داود الملك عندما مارس الصوم: "كان لباسي مِسحًا وكنتُ بالصومِ أُذَلِّلُ نفسي" (مزمور ٣٥ (٣٤):١٣). وصلّى: "إن ذَلَّلتُ بالصومِ نفسي، صار ذلك عاراً عليَّ" (مزمور ٦٩ (٦٨):١١). وحين وبّخ إيليا النّبي الملك آحاب على انّه باع نفسه للشّر في عينَي الربّ، "مزّق الملاك ثيابه، وجعل على بَدَنِه مِسحًا وصامَ وباتَ في المِسحِ ومشى رويداً رويداً" (ملوك الأول 27:21).

يشكّل زمن الصّوم الكبير فترة مهمّة من أزمنة السنة الطقسيّة، لأنّه يشكّل زمن تصحيح العلاقات باتّجاهات ثلاثة: مع الله بالصّلاة، ومع الذّات بالصّوم، ومع الإخوة المحتاجين بالصّدقة.

يدعو أشعيا النّبي إلى ممارسة صوم مقبول من الله وهو: حلّ قيود الشّر، وفكّ ربط الظلم، وإطلاق المسحوقين أحراراً، وتحطيم كلّ استكبار. أليس الصومُ الذي فضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِ، وفَكُّ رُبُطِ النِّير، وإطلاقُ المسحوقينَ أحراراً، وتحطيمُ كُلَّ نير؟ "أليس الصوم هو أن تكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ، وأن تُدخِلَ البائسين المطرودينَ بيتَكَ؟ وإذا رأيتَ العُرْياَن أن تكسُوَه، وألا تَتَوارى عن لحمِكَ؟" (أشعيا 6:58 -٧).

الصّوم فعل طاعة لله:

ليس الصّوم ابتكاراً بشريّاً، بل هو أمرٌ من الله، عاشته الكنيسة في وصاياها. ويقتضي منّا طاعته والالتزام به. إنّ أوّل أمر بالامتناع عن الأكلِ هو الذي وجّهه الله لأبوَينا الأوّلَين: "من جميع أشجار الجنّة تأكُل. وأمّا شَجَرةُ مَعرِفَةِ الخيرِ والشّرّ فلا تأكُلْ مِنها، فإنّك يَوْمَ تأكُلُ مِنها، تموتُ موتًا" (تكوين 16:2-١٧). فكانت عاقبة المعصية الطّرد من الفردوس (تكوين 23:3).

بهذه الطّاعة لأمر الله، صام موسى أمام الرّبّ على جبل سيناء أربعين يومًا وأربعين ليلة، لا يأكل خبزًا ولا يشرب ماءً. فسلّمه الله وصاياه العشر على لوحَي الحجر (خروج 28:34). كذلك فعل إيليا النّبي عندما اكتفى بالخبز والماء، مقدِّمًا صومه للربّ كفعل طاعة، وهو سائر أمامه، مدافعًا عن إيمانه به (ملوك الأول 6:19-٨). والربّ يسوع، عندما جاءه التّلاميذ بطعام ودعوه ليأكل، أجابَ: "طعامي أن أصنع مشيئة الآب الذي أرسلني، وأتمّ عمله" (يوحنا 34:4).

اعتادت الكنيسة التماس إرادة الله وعونه بالصوم والصلاة. هكذا فعل الأنبياء والمعلّمون في كنيسة انطاكيه "بينما هم يَقْضونَ فريضَةَ العِبادَةِ للرَّبٌ ويصومون، قال الرّوح القدس: "افرِدوا بَرْنابا وشاوُلَ للعملِ الذي دَعَوتُهما إليهِ. فصاموا وصلّوا، ثمّ وضعوا عليهما أيدِيَهم وصَرَفوهما" (أعمال الرُسُل 2:13-٣).

كذلك فعل بولس وبرنابا عندما أقاما بالصوم والصلاة كهنة في كلّ كنيسة "فعيَّنا شُيوخاً في كُلِّ كنيسةٍ وصَلَّيا وصاما، ثم استودَعاهُمُ الرَّبَّ الذي آمنوا به" (أعمال الرُسُل 23:14).

الخاتمة

زمن الصوم هو موسم إداء الشهادة لإيماننا المسيحي من خلال توبة القلب الداخلية والظاهرة خارجيًّا في الصوم والصلاة والصدقة واعمال الرحمّة والمحبّة. لكنّها تظهر أيضًا من خلال تصرفاتنا وطرق تعاملنا مع الناس، وأثناء قيامنا بواجباتنا وممارسة المسؤوليّة التي أُعطيت لنا.

كتب مار افرام السرياني عن صوم موسى: "لقد صام فاستنار، وصلَّى فانتصر. صعد بلون ونزل بلون آخر. صعد بلون أرضي ونزل لابساً بهاءً سماويّاً. كان له صومه بهجة، وصلاته ينبوع ماء حيّ. وهو رجل الفطنة، وصومه صوم غفران".

بمثل هذا الصوم ننطلق لنشهد لإيماننا ونبني مجتمعًا قائمًا على القيم الإنجيليّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، بشفاعة أمّنا مريم العذراء وأبينا القدِّيس كريكور (غريغوريوس) المنوِّر والطوباوي أغناطيوس مالويان وآبائنا القدِّيسين.

أتمنّى لكم صوماً مباركاً وتوبةً مقبولة