موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الإثنين، ٩ سبتمبر / أيلول ٢٠١٣
المسيحية في الشرق

عبدالهادي راجي المجالي :

على قناة الميادين أمس، قال أحد الكُتّاب الأردنيين: أدعو المسيحيين في سوريا لحمل السلاح والدفاع عن أنفسهم وعروبتهم في وجه هجمة التكفيريين، وأكد في اللقاء الذي أجرته معه الميادين أن حمل السلاح والقتال هو دفاع عن المسيحية في الشرق وعن الإسلام وعن الحضور المسيحي.

لم تنطلق هذه الدعوة من المسيحيين أنفسهم في سوريا، فكيف نقبل أن تنطلق من كاتب أردني..علما بأن المسيحية في الشرق لها مرجعية في ذلك وهي الكنيسة ولا يجوز تجاوزها...

الغريب أن الزميل نسي تاريخ المسيحية في الشام، نسي الحالة التنويرية التي قامت بها الكنيسة، نسي أن يعقوب زيادين الكركي نجح في انتخابات نيابية عن القدس في الخمسينيات لأنه كان متنورا ومعارضا شرسا، ولأن مواقفه كانت أقوى من السلاح...نسي الزميل حتى أن صالح المعشر الزعيم الوطني الأردني ورفيق هزاع المجالي ورفيق عبدالحليم النمر الحمود وأحد أبرز مؤسسي الحزب الاشتراكي كان يملك قوة جماهيرية وتأثيرا في السياسة أقوى وأكبر من كل البنادق...

نسي الزميل أن النموذج المسيحي في بلاد الشام هو الأنبل والأكثر سماحة وودا..هو لم يقرأ عن الخوري في الكرك وكيف أن ما يسمى (بمحرمة) شيخ المشايخ تودع أمانة لدى الكنيسة وأن خوري الكرك هو الذي ينصب الشيخ ويمنحه هذه (المحرمة )...وأن الكنيسة هناك هي صاحبة الدور الأول في إعلان الزعيم...

لسنا نحن الأردنيون الذين نطلق هذه الدعوات، والتي تصب في خانة إشعال حرب أهلية...وعلينا أن نتعلم من سماحة البابا شنودة زعيم الأقباط في مصر الذي حوصر وهمش، واحتجز في كنيسته ولم يطلق دعوة واحدة للصدام كل ما كان يقوله :- (نحن الأقباط، مصر تعيش فينا ولا نعيش فيها).

نسي الزميل، أن يقرأ قليلا من كتاب التاريخ في الكرك وكيف أن الكنيسة كانت هناك مؤسسة تنويرية اجتماعية، تدرس أبناء المسلمين وترعاهم مثلما تفعل مع المسيحي...وأنا هنا حين أتحدث عن المسيحية في الشام، أتحدث من خلفية اجتماعية جغرافية فالذين علموني القراءة والكتابة والتاريخ في الصفوف الأولى من المدرسة جميعهم من المسيحيين، وجميعهم كانوا أعمامي..فحين كبرت ظلت عيونهم ترعاني وبعضهم كان يذكرني بدرس اللغة العربية وكيف أقامت (العصا) حدا بين حفظ نشيد :- (فلسطين داري ودرب انتصاري) وبين اللعب المرح.

الأردن هو الوطن الذي ولدت فيه المسيحية كحالة وطنية مقاتلة مدافعة عن الهوية العربية، والمسيحيون في الأردن قادوا الحركة القومية وأسسوا اليسار الأردني، وأنشأوا في الاقتصاد رأس المال الوطني الحلال ...والأطباء المسيحيون في الأردن هم الذين اتصلوا بالغرب مبكرا وهم الذين قرروا إرسال (عيالنا) مبكرا أيضا في منتصف السبعينيات إلى بريطانيا وأمريكا والفضل يعود لهم في تأسيس...قاعدة طبية مرموقة، كان عليك أن تقرأ تاريخ يوسف القسوس في الخدمات الطبية وكيف كان يقاتل من أجل الحصول على منح من الحكومة البريطانية كي يرسل الضباط الأطباء إلى هناك.

والمسيحيون في الأردن ناضلوا لإنشاء خطاب وطني بهوية أردنية عربية،...فحين كتب جورج حداد رحمه الله في الإذاعة الاردنية (ميلي بطرف المنديل منششل برباع) لم يكن يكتب أغنية ولكنه كان يكتب وجدان شعب، ولهذا أحبه وصفي التل..وكان مثل ابنه مدللا، وطارق مصاروة حين كان في الإذاعة الأردنية ويجهز بدموعه..نبأ استشهاد هزاع المجالي لم يكن يفرق بين دين ودين بل كان الوطن واحدا في قلبه وقلب هزاع...

نحن الأردنيون الذين بحياتنا السياسية والاجتماعية أسسنا المسيحية على أنها حالة وطنية تنويرية إجتماعية، وقدمناها نموذجا يحتذى في العالم العربي، فهل يجوز أن ندعو الصليب لحمل السلاح؟...وكيف يستوي الامر مع روح وتعاليم الدين المسيحي القائمة على التسامح والود وقبول الاخر؟

لا أنظر لسوريا على أن المستهدف فيها مسيحي أو علوي أو سني، الوطن السوري كله بكل فئاته مستهدف والقذيفة حين تسقط لا تفرق بين دين ودين أو مذهب وآخر....

المسيحية في الشرق تعاني أعرف أنها في مصر وفي سوريا وفي العراق تعاني، وذلك قدرها فالمسيح تحمل الآلام، والنزف...ولكنه مضى في رسالته لم ينتقم، ولم يحقد..ولم يقتل ولم يسب إنساناً...وهذا قدر المسيحي في الشرق أن يعاني، بالمقابل هو يقدم نموذجا للعالم في التسامح والعروبة وفي أنه...جذر مغروس بالأرض لا يخلع ولا يذوب.

نحن الذين سندافع عن كنائسنا مثلما ندافع عن مساجدنا، وفاء لها فقد علمتني المسيحية في الكرك الحرف علمتني القراءة وزرعت في العروبة...نحن من سيدافع عن الكنائس، فهي لم ترفع مداميكها في الأرض بقدر ما رفعت في القلب، ولا نقبل من كاتب أردني عاش في مجتمع متسامح متواد...أن يدعو المسيحي لحمل السلاح، وكأنه يؤسس لحالة طائفية في سوريا ونحن نعلم أن سوريا كلها مستهدفة فالقنبلة التي قتلت الشيخ البوطي رحمه الله هي ذاتها التي استهدفت كنائس (معلولا)...

ندعو للوطن السوري بالصبر والحياة..وسنبقى برغم الإرهاب باسم الدين برغم القتل باسم الدين برغم كل ما حدث وما سيحدث، ننشد السلام والحب..والإخاء، وحماك الله يا بلادي.