موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الخميس، ١٨ يوليو / تموز ٢٠١٩
المستقبل بين المتفائل والمتشائم

كركوك - المطران يوسف توما :

ما يمكننا رؤيته من الواقع هو أقل من 0.1% فقط (00.0037٪) أي قليل جدًا. وحتى هذا القليل لا يراه المصاب بالتشاؤم، والفرق هو أن المتفائل يعمل على تسخير ما يراه ويحاول أن يتصل بغير المرئي عن طريق حثّ الطبيعة كشريك له في هذا الجهد. فالإنسان يستطيع أيا كانت حالته أن يسخّر ما لديه حتى الأيونات، عن طريق الإيجابي في التنفس والشم والإحساس والفهم. والأهم من كل ذلك، يقبل المتفائل مساعدة الآخرين ويندمج في نجاحهم ويفرح لهم. أذكر عندما استقبلت في نهاية عام 2014 (بعد احتلال داعش لنينوى) أوّل الطلاب اللاجئين إلى كركوك شجّعتهم على الاستمرار في الدراسة آملا أنني سأتمكن من توفير حاجاتهم، أغلبهم كان يعاني من التشاؤم والخيبة، لكن بعد أشهر قليلة أصابتهم عدوى تفاؤلي وصار عدد الذين يرون إمكانية تحسّن الوضع يزداد...

بعض المتفائلين قد يرون في المشاكل دافعا لهم ليدخلوا حلبة التنافس على أمل أن يُحكم عليهم بأنهم الأفضل، لكن حذار فمثل هؤلاء قد يقع في الاحباط، فاللاوعي لديه يضعه في التحدي مع الآخرين أو مع أشكال ظروف الحياة والطبيعة الأخرى (كالمرض والحوادث والشيخوخة...)، هذا التحدي ليس في مكانه. النجاح في الحياة يقوم بالأساس على نوعية ذكاء للتعايش مع الظروف والمصاعب وليس على المنافسة والتحدّي وصكّ الأسنان، لأن مبدأ "البقاء للأقوى"، الذي ساد عبر التاريخ أغلب المفكرين، لم يعد صالحا، صراع الحياة لم يوفر البقاء إلا لمن كان أكثر مرونة وحيلة وتكيّفا. المتفائل لا يطلب الكمال مثل المتشائم، ولا يدخل مجال التحدّي والمنافسة الانفعالية وإنما يتميّز بالهدوء والقناعة والتأمل والصبر وخصوصا يعطي لممارسة التدريب حيّزا في حياته.

إن كنا جميعًا معاصرين لبعضنا البعض، نتنفس الهواء ذاته، لكننا نختلف بالعواطف والانفعالات تمامًا. فطريقتي باستنشاق الهواء تختلف عن الآخر، هل أفعل ذلك بعصبية أم بسلام مع ما يحيط بي؟ شهيقي وزفيري يكشفان تفاعلا عاطفيا مع ما يحيط بي. هذا الأمر قد نراه بأنفسنا لدى بعض الناس وفي تصرفاتهم العادية.

إذا ما كنتَ تشعر بأنك سعيد، يمكنك أن تنقل السعادة إلى كل من تلتقي به. أي إذا كنت متفائلاً، واثقًا بتفاؤلك، سوف تضخّ شيئا إيجابيا للآخرين. لكن بالعكس، إذا كنتَ مكتئبًا، حزينًا وغير سعيد، فإن المشاعر السلبية مثل البكتيريا ستُضخّ في الآخرين بنفس قوّة العدوى المرضيّة، فنحن كائنات اجتماعية تعمل فينا المحاكاة بشكل غريب. كما تعمل مشاعر التفاؤل والتشاؤم بمثابة دفقات تدخل فينا وتخرج منا باستمرار تاركة أثرا ليس في البشر من حولنا فقط بل حتى في الحيوانات وبقية الكائنات الحيّة من حشرات وقيل أيضا على النباتات. لعدة سنوات مارست هواية تربية النحل في بغداد، وتعلمت منها الكثير، فكانت هذه الحشرات تحسّ بخوفي فأتعرّض إلى اللسع، وبعد تدرّبي لم أعد أحتاج حتى إلى لبس القناع. هذه الملاحظات يمكن أن نطبقها بين الجماعات البشرية، بعضهم يسوده روح الفريق الإيجابية والسعيدة وبعضهم الآخر يعمل فيهم الاكتئاب الجماعي الخانق الذي يتميز به الفريق كله، للأسف لم يقم بعد في علم النفس من يمكنه أن يساعدنا فيما يمكن أن أسميه "الكآبة الجماعية"، الكل يشخصها لكن لم يعط أحد لها أي علاج!

تشدد البحوث الحديثة والمعاصرة في العالم كله على ظاهرة التكامل والتفاعل بين الكائنات الحية وليس بين البشر فقط، بل حتى مع الجماد، فكل موجود عبارة عن "معلومة وتفاعل"، "جذب ونفور". كل موجود يتفاعل بشكل أو بآخر. وإذا ما كنا نحن البشر قد اعتبرنا أنفسنا في أعلى سلم الموجودات، لكن سوء تصرفاتنا جعلنا السبب الرئيسي في تدمير الغابات والأنهار والهواء والمياه والتصحر بشكل مستمر. منذ مدة نزل طلاب المدارس الثانوية إلى الشارع بالملايين في أوربا ليتظاهروا من أجل البيئة وما فعلنا بها، وهذا لأول مرة، إذ لا يزال الكثير من قادة العالم لا يصدقون أن البيئة في خطر بسببنا، بدءا بانقراض الكثير من الأحياء وهذا شيء خطير يهم الجميع ويخلّ بتوازن الطبيعة فالكائنات كلها تعاني ويظهر عليها الاكتئاب، ولعل ما رأينا من أشكال انتحار جماعي للدواعش والسلفيين والإرهابيين ليس سوى علامات لهذه العدوى الشاملة، فقوى الموت تبدو قوية اليوم أكثر من أي زمن مضى.

تبقى الأديان بمثابة مقاييس عميقة لبشريتنا، ووصول العنف إلى الأديان لهو علامة على تلك الكآبة المتفشية، فعوض أن تكون الأديان عناصر سلام، صارت فعالة في الموت والدمار، وهذا حدث في المسيحية في الماضي في أيام سوداء، وهو يحدث للمسلمين اليوم، كمؤشر إلى عدم ارتياح سائد وزائد وعابر للحدود.

لا ننسى أن الجنود الألمان في زمن النازية (1933-1945)، الذين كانوا يقتلون الناس بالملايين كانوا يحملون على حزامهم العسكري جملة "الله معنا" Gott mit uns، كذلك ارهابيو اليوم عندما يذبحون يصيحون "الله أكبر"!

لا نتصوّر أن المصابين بالكآبة أغبياء، بل بالعكس إنهم أذكياء ويستعملون المنطق، بل خصوصا يتعكزون على نصوص مقدسة، ألم نقرأ في تجارب يسوع كيف أن المجرّب يستعمل آيات الكتاب المقدس: "لأنه مكتوب..."، مثل كل الإرهابيين اليوم... العنف فينا، لا يحتاج سوى إلى "نقرة بسيطة"، دفعة لينطلق من عِقاله، مثل كل قصص المارد المحبوس في قمقم "يفركه علاء الدين فيخرج...". لكن التخلص منه وإدخاله من جديد وحبسه صعب جدا، إذ سيبدأ مسلسل الانتقام ولا يتوقف. وهذا يضعنا جميعا أمام مسألة المستقبل في العراق والمنطقة، ويطرح موضوع المصالحة التي ستكون صعبة جدا، لعلها تحتاج إلى معجزة أو تدخل إلهي...

لدى لقاء المسيح القائم من الموت مع تلميذي عماوس (إنجيل لوقا 24)، يعطيهم المفتاح، يقول "إنه انطلقَ من موسى والانبياء وشرح لهما ما يخصّه، ... أما كان يجب على ابن الإنسان أن يتألم؟ ..." (آية 27)، كل عنف متفشي يمكن قراءته في ضوء ما حدث للمسيح، ويحلل في ظل كلامه وسلامه ففي كل ظهور له لتلاميذه يقول: "سلامي أعطيكم، لا كما يعطيه العالم..." (يو 14/27). لكن ما العمل إذا ما كانت الكآبة متفشية؟ إذا ما جرجرتنا إلى قراءة أخرى بدائية، أو أيقظت النائم في القمقم من عنف ساكن فينا منذ بدء العالم، فنبرّر فرض إرادتِنا على الآخرين وتظهر على شكل حبّ السلطة والهيمنة، لذا يبقى المسيح مع كل الذين يسبحون عكس التيار، حتى عكس تيار قلوبهم، لذا يقول لكل من يدعي الإصلاح بالعنف: "أخرج الخشبة من عينك، لكي ترى ما في عين أخيك..." (متى 7/5).

إن معنى "الخشبة في عيني" هو الشيء الغامض العميق الذي يمكن أن أسمّيه: "حبّي للموت"، طاقة الهدم، سحر التدمير، نشوة الذبح، وأذية الآخرين، إنه المسلسل الذي لم يتوقف ولا يبدو أنه يقبل أن يتوقف، موجود فينا متأصل عميق لا (ولم) يسلم منه أحد، وهذا ما نسمّيه بالمسيحية "الخطيئة الأصلية"، وهي أقوى مما نتصوّر، إذ يكفي أن نستعرض ما يحدث في شوارعنا كل يوم، وكيف عندما يتعارك اثنان ينبهر الباقون، ويتوقفون لكي "يتطلعون"، إغراء العنف رهيب وهو سبب عشق الناس لأفلام العنف بحيث منعت دول عديدة عرض أفلام العنف إذ تزداد بعدها نسب الجريمة بشكل مطرد.

نحن بحاجة إلى من يطرد شياطيننا، تلك التي تقودنا لنعيش في المقابر (مرقس 5/5)، فشيء منها هو من بقايا الليل الساكن فينا، إنه "الانسان القديم"، المتوحش، عاشق الموت، العدواني، المتعصب، الذي لا يتحمل الاختلاف، الذي يلقي الذنب دائما على الآخرين، لو استطعت أن تزيحه من طريقك لتحسّنت حياتك...، وهذا ما علمنا إياه المسيح كيف نجابه عنفنا وكآبتنا وما فينا من مخزن قد يلوّث كل شيء نمسكه أو نتعامل معه، بحيث يصبح الله نفسه –من هذا المنظور– عنيفًا على صورة الكئيب الذي يتبعه.

زرت في هولندا قبل سنوات بيتًا في مدينة ديفنتر عاشت فيه فتاة اسمها إتي هليسوم (Etty Hillesum) 1914–1943، يهودية هولندية، قضت في معسكر اوشفيتز، عشقت المسيح، لتأثرها بمقولته: "أحبّوا أعداءكم"، فأحبّت حتى النهاية لأنها فهمت أن كل البشر "مصنوعون من لحم مثل لحمنا ودم مثل دمنا!". وهذا قاله قبلها المتصوف البغدادي الحسين بن منصور الحلاج: "بكى بعضي على بعضي معي..." (كتاب الطواسين).

أب فلسطيني اتصلت به القوات الإسرائيلية لتعلن له أن ابنه الشاب قتل على يد الجنود الإسرائيليين، وأن جثته في المشفى، تجاسر المتصل وطلب منه: هل تقبل أن نستعمل أعضاء ابنك ليعالج بها مرضى إسرائيليون؟ أجاب الرجل المنكوب: "نعم"، فقال المتصل: "حتى لو كانوا جنودا اسرائيليين؟" قال الرجل "نعم" أيضا وبلا تردد. من يستطيع ذلك إلا بقوة من فوق؟ لكن هي الحقيقة الوحيدة التي ستنقذ عالمنا وإلا غرقنا جميعا...

إنه المرض الواحد الوحيد الذي لا يمكن للطب أن يعالجه، ولا يهم من هو المصاب به، فالعدوى قريبة جدًا، تعبر حدود الأديان والمذاهب والشعوب، لا تميّز بين "هم" و"نحن"، وكل من حاول أو فكر أن يقتلعها يفعل ذلك بالآخرين فقط ولا يرى نفسه، في حين يجب أن نقلب المسألة: اقرأ وحاول رؤيتها في قلبك، كي يتوقف مسلسل الشر، هذا هو الطريق الأسلم. فالعالم لن يتغيّر ولن تختفي حروبه إلا إذا قرّرنا أن نعمل السلام فينا. "نقِ قلبك سترى العالمَ مختلفا تمامًا" (المهاتما غاندي).

العنف إذن هو مثل مرض الغنغرين gangrene موجود فينا جميعًا بشكل أكثر أو أقل، كل يأتي دوره بحسب توقيته، لكن هذا المرض قد يتحوّل عركة صغيرة في أحد البيوت أو حربًا كبيرة بين الشعوب والدول، وهو المبدأ الذي يعمل منذ شمشون الجبار: "عليّ وعلى أعدائي، فقتل بموته أكثر مما قتل خلال حياته" (قضاة 16/29-30). هكذا كل من يشعل حربا كأنه يقول: وإن متُ، لكنني سأقتل معي أكبر عدد ممكن! إنه الشيطان، يصرخ فيّ من أجل تدميري من الداخل، لنتذكر صورة الدواعش في متحف الموصل يدمّرون التماثيل، ثم فجروا مرقد ودير (يونان) النبي يونس ثم الكنائس ثم الجوامع ومنارة الحدباء، ثم قتلوا 350 من أئمة الجوامع الذين لم يبايعوهم... "عليك أن تسجد لي" (متى 4/9) وإلا...، الكآبة تعمل بشكل تصاعدي كالنار لا تشبع، كل موجود يجب أن يزول. كان الإرهابي الزرقاوي يقول: إني بقتل الأبرياء أعجّل في ذهابهم إلى الجنة! هكذا تعمل كل خطط البدع الشيطانية، جيم جونس الأمريكي صاحب بدعة (هيكل الشعب في جونستاون) أجبر في يوم واحد 909 من أتباعه على الانتحار بسمّ السيانيد في 18/11/1978، إنها "لذة سكان جهنم: اللامبالاة بالآخر"، وأن لا شيء بعدهم مهمّ، فيقول لسان حاله: "إذا متُ ضمانا فلا هطل الطل!"، بينما صفات المتفائل اربعة: اهتمام بالأشياء، معرفة قيمتها، البحث عن معناها وتفكير يحللها بموضوعية.

أما المتشائم فلا يهتم، لا يدرس، لا يقرأ، يريد كسر كل شيء، باسم العدم والعدمية وخلق الفوضى.

هكذا أولادنا في المستقبل سيحملون حملا ثقيلا إذا ما أعطيناهم كآبتنا ونظرتنا السوداوية على الحياة، أليس علينا أن نخفف عنهم، فقد لا يكون زمانهم مثل زماننا ولا هم مثلنا. لا ينبغي إذن أن نثقل ذاكرتهم بالماضي المتعب.

نقرأ في سفر التكوين أن يعقوب أبو الأسباط تصارع مع الملاك، فتبدّل اسمه، من يعقوب إلى إسرائيل (32/29)، لأن الرب يحبّ الذين يتصارعون، والنتيجة كانت البركة، وأثار آلام المسيح في يديه وجنبه أيضًا بركة ونعمة. وأصبح موته علامة التفاؤل والقيامة. فأعادنا إلى الحياة والشباب والفرح، والحب والنقاء. هذا هو معنى "العهد الجديد"، المتجدّد، المتجه نحو المستقبل، الذي لا يشيخ بالرغم من قصصنا وجروحنا، بل سيتحوّل إلى علامات على طريق حياتنا نتذكرها، وننقلها بشرى سارة متفائلة بالرغم من كل ما يمكن أن يحدث في المستقبل.