موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١ يناير / كانون الثاني ٢٠١٩
المدبر الرسولي في يوم السلام: العمل السياسي وملكوت الله

القدس – البطريركية اللاتينية :

ترأس رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسابالا، المدبر الرسولي للبطريركية اللاتينية اليوم ١ كانون الثاني ٢٠١٩، قداسًا إلهيًا بمناسبة عيد القديسة مريم والدة الإله ويوم السلام العالمي، وذلك في كونكاتدرائية البطريركية اللاتينية.

وشارك في القداس النائب البطريركي في القدس وفلسطين المطران بواس ماركوتسو، والنائب البطريركي للاتين في الأردن المطران وليم شوملي، وحارس الأراضي المقدسة الأب فرانشيسكو باتون الفرنسيسكاني، وعدد من الكهنة، بحضور القاصد الرسولي في القدس المطران ليوبولدو جيريللي، وجماعات الرهبان والراهبات، ومجموعة الكشافة القادمة من فرنسا، وحشد كبير من المؤمنين المحليين والحجاج.

وفيما يلي عظة المطران بييرباتيستا بيتسابالا:

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، بلغنا هذا العام أيضًا إلى هذا اليوم، يوم رأس السنة، وفيه ما زلنا نتأمل في سر الله الذي ظهر طفلًا وضيعًا صغيرًا. هو الخالق أراد أن يصير ابن الإنسان. ونحتفل أيضًا بعيد سيدتنا مريم العذراء والدة الإله. نحتفل بأمومة مريم العذراء، وبأمومة كل امرأة وأمّ. ومن الجميل أن نتوقّف ونتأمّل في هذا السر، سر أمومة مريم العذراء، وسر الحياة الذي يمر من خلال الحبّ في حياة كل امرأة.

واليوم نحتفل أيضًا بيوم السلام العالمي، ونريد أن نتأمل بصورة خاصة في رسالة قداسة البابا فرنسيس في هذا اليوم. محور رسالة البابا في هذا العام هو “العمل السياسي” ومسؤولية أهل السياسة. لا أريد أن أقدم اعتبارات في السياسة. ليس هذا المكان المناسب ولا فائدة من ذلك. ولكن، مع البابا فرنسيس، أريد أن أبيّن الصلة التي تربط بين ملكوت الله والعمل السياسي.

قلتُ، قبل أيام، في عيد الميلاد، إن ميلاد يسوع المسيح في مدننا، في أماكن حياتنا يحب أن يثير فينا نوعًا من “الهوى أو الرغبة في السياسة“، بمعنى الإحساس بالمسؤولية السياسية التي غايتها الاهتمام للمدينة وللأرض التي نسكنها. الاهتمام للمدينة ليس لتملُّكها أو لفرض الاحتلال عليها، ولكن لتحويلها من تجمُّع سكاني مدني في خدمة بعض الأشخاص وبعض المصالح الشخصية إلى فسحة حياة ومكان يعيش فيه الناس الشركة والسلام وعلاقات متبادلة سليمة وتقاسم الخيرات. لما ولد المسيح بيننا وضع في الأرض بداية الملكوت، وصارت مدننا المكان الذي يبني فيه المسيحي بعمله ملكوت الله. وذلك لا يعني أن الملكوت هو فقط الكنيسة والنشاطات الكنسية، أو هو المسيح نفسه. نعم هو هذا. ولكنه أكثر من ذلك. مجتمع الناس ليس مجتمعًا يبلغ الكمال مرة واحدة بصورة نهائية، بل هو مجتمع دائم التحوُّل، وهو دائمًا في حالة تكوُّن وبناء، لأنه يقوم على علاقات الناس بعضهم ببعض في مدننا.

يبيّن لنا يسوع المسيح الملكوت شيئًا فشيئًا، من خلال آياته وطريقة كلامه الجديدة، ونظرته لجديدة إلى الأمور، التي تثير دهش الجميع، ولا سيما الصغار والمهمشين. والجماعة المسيحية الأولى في القدس توسِّع نوعًا ما وتكمِّل معنى الملكوت الذي بدأه يسوع: فيه تجاوُزُ الحدود اللغوية والثقافية (أعمال ٢: ١– ١٣)، وإعادة تنظيم لتقاسم الخيرات ( أعمال ٤: ٣٤– ٣٥)، كلها علامات تدل على طريق جديدة للحياة في المدينة، وقد بدأت فبدَّلت شيئًا فشيئًا طريقة الحياة الاجتماعية في ذلك الزمن.

الملكوت بالإيجاز هو كل ما يعبر عن التجديد المسيحي الكبير، ليس فقط على الصعيد الشخصي بل الاجتماعي أيضًا: هو كل ما يتعلق بكرامة الإنسان. هو تأَسيس العلاقات على الحرية والمشاركة في المسؤولية المدنية والثقافية والدينية، وعلى قيم المساواة والوحدة والتضامن. بناء الملكوت هو أن يتخلَّى الفرد عن مصلحة شخصية في سبيل خير أعظم وأعمّ للجميع. بناء الملكوت هو خلق الإحساس بالانتماء وبحياة الجماعة. هو الحد من قوى الموت والانقسامات التي توجد في كل جماعة، والعمل على تعزيز الثقة بين الناس، وتغذية الأمل دائمًا وفي كل الظروف، والقوة للعودة إلى العمل والحياة حيثما فُقِدَت الثقة. هو الالتزام وحثّ الآخرين على الالتزام. ملكوت الله هو خدمة العدل الذي هو التعبير عن أسمى أشكال الحضارة، ورفض كل مساومة تخِلًّ بالعدل والحقيقة. بناء الملكوت هو أن نتعلم المغفرة وإعادة البناء من جديد على أنقاض خطايانا. بكلمة، السلام هو ثمرة علاقات كاملة سليمة وحرة. والسياسة إذًا هي كل ما يبني هذا السلام ويحميه، وهو تنظيم الحياة الاجتماعية في المدينة بموجب هذه المقاييس والقيم.

اليوم كلنا مدعوون إلى العمل السياسي، بأسمى معنى لهذه الكلمة، أي إلى الدفاع عن السلام ومواجهة الأخطار التي تهدّده. الدفاع عنه من مخاطر مختلف أشكال الأنانيات، القومية أو الخاصة، أو الطائفيّة، أو أية تجمُّعات أخرى، دينية أو إثنية، كنسية أو سياسية. هو الدفاع عنه من خطر العنف من قِبَلِ من يشعر بنفسه قويًّا لا يُهزَم، او مَن يلجأ إلى العنف من يأس لأن حقوقه الأساسية قد هُضِمَت. هناك أيضا خطر أن ييأس الإنسان من إمكانية إقامة علاقات مبنية على العدل والحوار والمفاوضات، وخطر فقدان الأمل في حياة خالية من المظالم والمصالح الخاصة، وأنه لم يعد ممكنًا أن نثق بإنسان.

في السياق الخاص الذي نعيشه في أبرشيتنا وفي المنطقة كلها، كل هذا الكلام يبدو خيالا وبعيدًا، بعد السماء عن الأرض، عن الواقع الذي نعيشه. شهدنا حولنا مآسي لم نكن نفكر أنها ستحدث يومًا في زمننا. وفي أرضنا ايضًا ما زلنا نشهد تردِّيًا بطيئًا، ولكن مستمرًّا وليس أقل خطرًا مما يحدث حولنا، في كل العلاقات على كل المستويات، في العلاقات السياسية والثقة الاجتماعية. سنين من المفاوضات فشلت، مشاريع سلام أعلِن عنها ولم تُحقَّق، واقتصاد متجمِّد. ويمكن أن نستمر في تعداد الويلات والمشاكل غير المحلولة. الصراع أصبح جزءًا من طريقة حياتنا، وطريقة تفكيرنا، من تنقلاتنا، وكل مبادرة نتخذها، وكل ما نعمل.

هذه الحالة المتجمدة منذ زمن طويل جعلتنا قساة لا نصدق أنه يمكننا يومًا أن نكون بناة للملكوت، هنا، في القدس مدينتنا، وفي الأرض المقدسة. كم مرة نقول بشيء من الاستخفاف: نعم سيأتي السلام، بعد مجيء المسيح.

إن استسلمنا لمثل هذا الموقف وجعلناه جزءًا من طريقة حياتنا وتفكيرنا، وتخلَّيْنا عن أن نكون “سياسيِّين” صادقين، أعني بناة إيجابيين لمدينتنا، نحن أيضا سنكون بين الذين يهددون السلام. ليس المطلوب أن نقوم بأمور كبيرة. مثل بيسوع المسيح، نبدأ من “الآخِرين“، نبدأ من بيوتنا ومن جماعاتنا. في مدرستنا وفي أديارنا وفي علاقاتنا الشخصية. نريد أن نبقى واثقين مؤمنين بالإنسان دائمًا بالرغم من كل الشرور. هذه هي أول طريقة للمساهمة في بناء السلام.

ولكن هذا لا يكفي. يجب أن نتكلم بصراحة وحرية، للدفاع عن العدل والوصول إلى قلوب المسؤولين في مدننا، لنخلق فيهم وفي كل مواطن الرغبة والهوى والحنين إلى الملكوت. العمل في سبيل السلام يقتضي أن نُظهِر التزامنا نحن في سبيل السلام.

بالرغم من كل الإحباطات، يجب أن نشجع كل الذين يريدون الانخراط في العمل السياسي. لأنه لا بد من أناس يختصون بالسياسة، مستعدين لبذل نفوسهم في سبيل حياة المدينة، قادرين على خلق تجمعات إنسانية مزدهرة.

ولكن المسؤولين السياسيين لا يمكنهم عمل الشيء الكثير إن نحن لم نهتم بصورة جدية لهذه السياسة، بأسمى صورها وغاياتها التي تكلمنا عليها، حتى لا نكون مثل من يتكلمون على السلام ولا يعملون شيئًا، وينضمون فقط إلى قائمة المتكلمين على السلام.

ونحن وحدنا لا نستطيع أن نعمل شيئًا. ولهذا نطلب اليوم إلى والدة الله القديسة، وإلى الطفل عمانوئيل، أي “الله معنا“، أن يسندنا. نحن بحاجة إلى توجيه أنظارنا إلى طفل بيت لحم، لأن القوة والشجاعة لبناء السلام في مدينتنا تبدأ هنا في الصلاة والتأمل في الطفل يسوع في بيت لحم. في محبة الصغار تبدأ، لأن الأطفال هم الذين يجددون الحياة في كل بالغ وينعشون فيه الابتسامة والحب الكامن في كل واحد منا، وهم الذي يمكنهم أن يحرِّكوا فينا قوة قد لا نفكر أنها موجودة فينا. كل والد ووالدة يعرف هذا.

نسأل طفل بيت لحم، وأمه العذراء مريم وأمّنا، أن يضرما وينعشا في كل واحد منا، وفي جماعتنا الكنسية، هذا الحب الذي يمنح الجماعة القوة للبدء دائمًا من جديد، حتى نبني من غير كلل ولا ملل، في جماعتنا المدنية، سلام الملكوت. آمين.