موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ سبتمبر / أيلول ٢٠١٨
المجانية العالمية.. أسلوب يسوع الجديد

رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسابالا :

في نص إنجيل اليوم يوجّه يسوع انتباهه إلى ما يفكّر عنه من هم أقرب الناس إليه.

يسأل يسوع تلاميذه عن قول الناس فيه (مرقس ٨: ٢٧)، ثم يسألهم عن قولهم هم (مرقس ٨: ٢٩). وها هو يوبّخ بطرس لأن أفكاره ليست أفكار الله (مرقس ٨: ٣٣). بعدها يطلب منه التخلي عن أفكاره الخاصة ليتبنى تفكيرا جديداً.

في هذه المرحلة من الإنجيل نصل إلى نقطة تحوّل. في جميع الأناجيل الإزائية الثلاثة، يُعتبر نص اعتراف بطرس بالمسيح في قيصرية فيلبس حدثاً مفصليًا. من هذا المكان يبدأ يسوع مسيرته نحو القدس ليعيش آلامه. في هذه المرحلة تحديدًا ولأول مرة يتحدث يسوع عما ينتظره في المدينة المقدسة وهو أمر لم يتقبله التلاميذ. فأبدوا مقاومتهم لمنطق الحب الذي ملأ قلب المسيح والذي يعني تقدمة حياته فداء عن البشر.

نستطيع القول إنه في هذه المرحلة التاريخية من الإنجيل، لا بدّ أن كل واحد من التلاميذ كوّن فكرة عن يسوع وحدّد ملامح وجهه. من هنا يبدأ الرب طريقه إلى القدس، مصطحباً معه تلاميذه، داعيا إياهم إلى أن يتقبلوا ليس "يسوع أفكارهم" بل يسوع الذي يكشف سرالصليب، والذي يتجاوز كل فكرة إنسانية ممكنة.

في الواقع، الوجه الأول ليسوع هو الذي يمرّ في ذهن الناس (مرقس ٨: ٢٨).

هذا الأمر يثير الاهتمام لكونه يصف يسوع بأقل المواصفات! يراه الناس في شخص المعمدان أو إيليا أو أحد الأنبياء.

أما موسى، الذي يقترن اسمه مع انتظار الشعب اليهودي للمسيح، فلا يرد ذكره في قائمة الأنبياء. لقد اعتبر إيليا النبي الشخص الذي كان سيُحضر الطريق للمسيح تماماً مثل يوحنا المعمدان. إن مقارنة يسوع مع هاتين الشخصيتين تُظهر جلياً الرغبة في إبقائه في قائمة السابقين المنبئين بالمسيح، ولا شيء أكثر من ذلك. لم يخطر بالهم في أن يسوع هو المسيح.

ولكن لماذا؟ ألم تمتاز أعمال يسوع بصفات مسيحانية: شفى البرص وأعاد البصر للعميان والسمع للصم تماماً كما جاء في وصف الأنبياء الكبار للزمن المسيحاني.

يبدو أن نغمة نشاز أفسدت الظن في يسوع، مفادها أن الخلاص لن يكون من نصيب الشعب اليهودي وحده بل سيشمل الجميع، وأن الوليمة معدّة أيضًا للوثنيين حيث يُدعى المُضطهَد والمُضطهِد للجلوس سويًا. تتمثل النغمة النشاز في تجاوز مبدأ الاستحقاق الذي يأتي من الالتزام بالشرائع والتقاليد. إن لدى يسوع أسلوب جديد يتمثل في المجانية العالمية.

إن ما لا يستطيع الشعب التفكير به، وهو كون يسوع المسيح المنتظر، يفكر به بطرس في الجزء الثاني من إنجيل اليوم. بالنسبة لبطرس، الذي يبدو أنه يتكلم باسم الجميع، ليس يسوع واحداً من السابقين بل هو المسيح نفسه.

يجدر الإشارة هنا إلى عدم وجود أي تقدير لجواب بطرس في إنجيل مرقس كما هو الحال في إنجيل متى. يكتفي يسوع بنهي التلاميذ عن كشف هويته لأحد.

نستطيع فوراً إدراك الدافع وراء ذلك: لا يكتفي يسوع بما قاله بطرس بل يُعلن عن أمر لا يستطيع أحد من الناس أو التلاميذ تصوره، وهو أن يسوع سيكون المسيح على طريقة "ابن الإنسان". إن هذا اللقب المسيحاني يظهر ١٤ مرة في إنجيل مرقس. ويكاد يرتبط دائماً بالسر الفصحي تحت شعار من جاء "ليخدم ويفدي بنفسه جماعة الناس" (مرقس ١٠: ٤٥).

إزاء هذا الإعلان لم يفهم بطرس في البداية أي شيء، وهذا هو القسم الثالث من إنجيل اليوم.

في الواقع، يوسّع يسوع نطاق خطابه بتحديده هوية تلاميذه، كما أننا لا نستطيع فهم هويته من دون القيام بجهد لفهم أنفسنا. يرتبط هذان الأمران ترابطاً وثيقاً.

لن أعرف الرب إلا إذا اتبعته في فقدان ذاته وبذله لذاته وحياته.

إن أية معرفة أخرى، كتلك التي يمتلكها الجمع وبطرس والتلاميذ لا يمكن أن تكون إلا جزئية، وعليه غير صحيحة.

أما إن دخلتُ في منطق جديد مبني على بذل الذات مثل المسيح ومع المسيح، حينها أستطيع أن أدرك أن يسوع هو الرب مانح الحياة، ويمنحها من خلال بذل حياته في سبيل إخوته.

هذا هو التحدي الذي يتوجب قبوله في هذا الجزء الأخير من حياة الرب مع تلاميذه. هذا التحدي يتطلب مسيرة.

سيحمل اللقاءان اللذان سيقوم بهما يسوع قبل وصوله إلى اورشليم دلالة رمزية لهذا التحدي: الأول هو لقاؤه مع الرجل الغني (مرقس ١٠: ١٧- ٢٢) والثاني مع برطيماوس، الرجل الأعمى من أريحا (مرقس ١٠: ٤٦- ٥٢). في اللقاء الأول، نرى عدم استعداد الرجل الغني لخسارة شيء من ممتلكاته، وعليه فإنه لا يحظى من الرب بمعرفة يسوع وتحقيق ذاته (مرقس ١٠: ٢١). أما الرجل الأعمى، فهو على أهبة الاستعداد للقاء يسوع. وقد اكتشف لحظة ما أن ثوبه يعيق حركته فرماه عنه للحاق بيسوع الذي يدعوه.

وبما أننا تناولنا اليوم موضوع الهوية، سواء هوية يسوع أو التلاميذ، يجدر الإشارة إلى عدم ذكر اسم الرجل الغني، بعكس برطيماوس الذي لا يملك اسماً فحسب بل يجد مكانه في الحياة فيصبح ذلك الذي "تبع يسوع في الطريق" (مرقس ١٠: ٥٢). برطيماوس هو أفضل مثال على تلميذ الرب الذي يسير معه نحو أورشليم.