موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الخميس، ١٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٣
المتصوف جلال الدين الروميّ ونتاجه الفكري

الأب جوزيف شابو :

يحمل التاريخ في طيّاته كثيراً من الأحداث والأشخاص الذين عاشوا لغيرهم، أو لربّهم. وكثيرون هم الشعراء الذين تغنّوا بالحياة وجمالها. وكثيرون من المتصوّفة غنّوا للحُبّ. لكن، ما من شاعر غنّى للحُبّ والحياة والجمال، والنُور والوجود، مثلما غنّى، صاحب هذه الأبيات. وما من شاعر صوفيّ غاص في أعماق النَفْس البَشَريَّة، أو ألهب قلوب العشّاق، كما فعل وألهبها جلال الدين الرومي.

شاعرٌ، اختار حياة التصوّف سبيلاً للوصول إلى الله، والاتّحاد معه. فكان تصوّفه مزيجاً من الحِكمة والروحانيَّة، والغوص في أعماق الإنسان. وبشعره الذي فاض حُبّاً وحِكمة، بلغ أسمى درجات العبقريَّة الشعريَّة.

هرب بالإنسان إلى أقاصي الروح، وحلّق به إلى أعالي القمم، وجعل منه غباراً أمام الطبيعة، التي لا تغنّي إلاّ لله. فغنّى معها، ورحل في رحلة عشق لخالق الكون. وهذا العشق ليس هو إلاّ علاقة الإنسان بربّه. وهو يعني المحبّة الخالصة والعرفان الكامل والوجد الصوفيّ. إنّ العشق الإلهيّ هو أساس التصوّف، وبه يبلغ المتصوّف إلى درجات الكمال.

حياته

هو جلال الدِين، محمّد بن محمّد البلخيّ، المولود في السادس من ربيع الأوّل سنة 604ه‍ / أيلول 1207م، في مدينة بلخ، لذلك لقّب أحياناً ب‍ِ جلال الدِين محمّد البلخيّ. أبوه محمّد بن الحسين الخطبي، وكان يدعى بهاء الدِين (بهاء ولد) وهو شاعر وعالِم في الدِين، من أتباع المدرسة الحنفيَّة، وذو مكانة مرموقة، لذلك لقّب ب‍سُلطان العلماء، وقد اضطرّ سنة 609 إلى الهجرة لمغادرة مدينة بلخ لعدّة أسباب، لعلّ أهمّها خلافه مع الفلاسفة، وخاصّة الفيلسوف فخر الدِين الرازي، فتنقّل مع أسرته من بلد إلى آخَر، إلى أن حطّ به الترحال في مدينة قونية، عاصمة دولة السلاجقة في آسيا الصُغرى. وخلال تنقّلاته هذه، التقت أسرته مع الشاعر الفارسيّ الكبير فريد الدِين العطّار، الذي أخذ الطفل بين يديه، وتنبّأ له بمستقبل عظيم ومرتبة عالية في التصوّف، ثمّ أهداه نسخة من منظومته "أسرار نامه".

لقّب جلال الدِين بالروميّ، نسبة إلى بلاد الروم، حيث قضى القسم الأكبر من حياته، ومات ودُفن فيها في الخامس من جمادى الثانية سنة 672ه‍ / 1273م. وقد شيّدت قبّة فوق قبره عرفت بالقبّة الخضراء. وقد زار الرحّالة ابن بطّوطة القبر ووصفه لنا في كتابه "رحلة ابن بطّوطة". وخلال إقامة جلال الدِين الروميّ في مدينة لاندرة، التي تعرف الآن بمدينة قرمان. تزوّج من جوهرة خاتون، ابنة "لالا شرف الدِين السمرقنديّ" ورُزق منها بصبيين، علاء الدِين وبهاء الدِين.

علومه

إنّ أوّل مَن لقّن العلوم لجلال الدِين الروميّ والده "بهاء الدِين ولد"، ثمّ تابع برهان الدِين محقّق الترمذيّ - صديق والده، تعليم جلال الدِين الروميّ، على مدى سنوات، نصحه بعدها بزيارة دمشق، والتي توجّه إليها مروراً بحلب. وفي حلب التقى صوفيّين آخَرين. ومن المعلوم أنّ حلب كانت تعدّ في ذلك العصر مركزاً فكريّاً هامّاً. وقد أمّها كبار العلماء والفلاسفة. ثمّ تابع مسيره إلى دمشق حيث أقام سنوات عديدة. ولسنا نعلم ما إذا كان قد التقى خلالها شيخ المتصوّفة "ابن عربيّ" خاصّة أنّ جلال الدِين الروميّ لا يشير إلى لقاء جرى بينه وبين شيخ المتصوّفة. بعد عودته إلى قونية، ووفاة أستاذه برهان الدِين محقّق الترمذيّ. تسلّم جلال الدِين الروميّ مهامّ التدريس في هذه المدينة، فتجمّع حوله التلاميذ والمريدون، ليستمعوا إليه، إذ كان يعدّ من الفقهاء الأحناف. أمّا خارج أوقات التدريس، فقد كان يُمضي أوقاته في الوعظ والتأمّل.

يخبرنا ابن بطّوطة أنّ جلال الدِين الروميّ كان يلقي دروسه يوميّاً على طُلاّبه، وإذا ببائع حلوى يدخل عليهم ليبيعهم من بضاعته. فلمّا أتى مجلس التدريس قال له جلال الدِين الروميّ، هات طبقك. فأخذ الحلوانيّ قطعة وأعطاها لجلال الدِين، فخرج جلال الدِين وراءه تاركاً تلاميذه والتدريس.

إذا أخذنا حكاية ابن بطّوطة على محمل الصدق، فإنّ بائع الحلوى هو شمس الدِين التبريزي (قتل سنة 645 للهجرة). ولكن، يبدو أنّ الطابع الخياليّ يلفّ هذه الحكاية وكثيراً من الحكايات التي حيكت حول لقاء جلال الدِين الروميّ شمسَ الدِين التبريزيّ. وتبقى لحظة التقاء الرجلين غائبة عن معرفة المؤرّخين، وقد كان لقاء ترك أثراً كبيراً في جلال الدِين الروميّ. إذ حوّله من فقيه إلى ملهم ذي قريحة فيّاضة، كما أدخله عالَم التصوّف، الذي انقطع له، وأقام طريقة المولويَّة التي تعرف ب‍ِ "الدراويش الراقصين".

استطاع شمس الدِين التبريزيّ أن يبعد جلال الدِين الروميّ عن تلاميذه. فانصرف بذلك عن التعليم والوعظ إلى حياة جديدة تقوم على المعرفة الحقّانيَّة، والانصراف إلى الله كلّيّاً فأضحى أعظم متصوّفة عصره.

وعن هذا التحوّل يقول جلال الدِين الروميّ في إحدى رباعيّاته ما ترجمته، عندما اشتعلت نيران الحُبّ في صدري أحرق لهيبها كلّ ما كان في قلبي فازدريت العقل الدقيق والمدرسة والكتاب وعملت على اكتساب صناعة الشعر، وتعلّمت النظم.

كان جلال الدِين الروميّ يؤمن بوحدة الأديان، مثل ابن عربيّ، ويقول بذلك:
مسلم أنا، ولكنّي نصرانيّ وبرهميّ وزرادشتيّ.
توكّلت عليك، أيّها الحقّ الأعلى، فلا تنأ عنّي.
ليس لي سوى معبد واحد، أو مسجد، أو كنيسة، أو بيت أصنام.
ووجهك الكريم منه غاية نِعمتي.
فلا تنأ عنّي، لا تنأ عنّي.

الطريقة المولويَّة

أسّس هذه الطريقة، أو المدرسة "بهاء الدِين ولد" والد جلال الدِين الروميّ. وهي طريقة صوفيَّة قوامها الدراويش الراقصون. انتشرت منذ تأسيسها بشكل واسع في قونية - تركيّا. تعتمد هذه الطريقة على الموسيقا. حيث أدخلها جلال الدِين الروميّ، في مجالسها. لكنّ المميّز فيها، أنّها من الطرق القليلة التي تعتمد على العقل لمعرفة الحقّ. والعقل يهدي إلى الرشد. ويستدلّ به على وجود الله تعالى. تنتسب الطريقة المولويَّة إلى فرع الصوفيَّة الخراسانيَّة الفارسيَّة. وليس إلى الفرع العربيّ البغداديّ. وقد انتشرت في البلاد العثمانيَّة فقط. لكنّها أسّست لها بعضاً من المراكز في حلب، ودمشق، والقاهرة، والقدس. وقد سمّيت هذه المراكز بالتكيّات. وقد مارس فيها الأتراك فقط شعائر الصوفيَّة المولويَّة. والجدير بالذكر أنّها سمّيت مولويَّة نسبة إلى لقب (مولانا) جلال الدِين الروميّ.

فكـره

ليس في المستطاع أن نحيط بفكر جلال الدِين الروميّ، عبر كلمات قليلة. فهو ثالث المثلّث الصوفيّ الفارسيّ، بعد سنائي وفريد الدِين العطّار. لا بل إنّه قمّة هذا الهرم الثلاثيّ. وقد أجمع البحّاثة من الشرق والغرب معاً، على أنّه أعظم شعراء الصوفيَّة بدون منازع، لا بل إنّه واحد من شعراء الإنسانيَّة الأفذاذ. وقد امتاز جلال الدِين الروميّ بقوّة البيان وبراعة التصوير، إذ كان ذا خيال فيّاض. فهو يقدّم لنا الفكرة الواحدة بصور متعدّدة، مغنياً إيّاها بالأمثلة الكثيرة، فتأتي القصّة الصغيرة بمئات ومئات من الأبيات الشعريَّة، ويدعم فيها آراءه ونصائحه لتكون كاملة متكاملة... وإنّه ليقول عن كتابه "مثنوي" إنّه أصولُ أصولِ الدِين.

إنّه ليستطيع بأسلوبه الشعريّ الفذّ أن يجسّد الفكرة، فيجعل القارئ يتنقّل ما بين المعنويّات والمحسوسات. إنّه بمهارته الشعريَّة، يمزج بين الطبيعة والحياة والنَفْس الإنسانيَّة، فيضع لقارئه صورة متكاملة، تنقله إلى عمق أعماق التأمّل في النَفْس البَشَريَّة والعزّة الإلهيَّة.
امتاز الروميّ بمقدرة عجيبة على تناوله موضوعاً ما لا يكون جديداً بالضرورة، يعرضه بقالب جديد وأسلوب فنّيّ أدبيّ، فيأتي الموضوع وكأنّه يُعرض على القارئ لأوّل مرّة. والأمثلة كثيرة على ذلك. فمثلاً، نجد حضوراً مكثّفاً لبعض قصص "كليلة ودمنة"، وكذلك لبعض أفكار الشاعرين الصوفيّين سنائي وفريد الدِين العطّار.

وتتطرّق أفكاره وموضوعاته إلى أمور الحياة اليوميَّة بمختلف مستوياتها، فبراعته الفنّيَّة وعبقريّته وأسلوبه في فنّ الحِوار، استطاعت أن ترفع بكثير من الموضوعات البسيطة إلى مستوى فنّيّ أدبيّ في غاية الروعة، حيث يضعها في موضع التأمّل النَفْسيّ والإلهيّ.

وهو يتّخذ من الحِكم والأمثال مادّة في عرض فلسفته الصوفيَّة، ما زاد من أهمّيَّة الموضوعات التي تطرّق إليها. فجاءت أفكاره واضحة ونافذة إلى عمق النَفْس البَشَريَّة، مع أنّها وُضعت في القرن السابع الهجريّ (الثالث عشر الميلاديّ).

ويمكن القول إنّ الفكر والشعر عند جلال الدِين الروميّ يتطرّقان إلى حالات الوجد الصوفيّ والفناء عن الذات الإنسانيَّة. وحاله بذلك هي حال جميع المتصوّفة الذين نظموا الشعر في حالات الوجد الصوفيّ، الذي نستطيع أن نسمّيه "بأدب اللاوعي":
تراب هذه الدار وقمامتها مسك وعنبر وعطر.
كلّ سطحها وبابها شعر وألحان.
فمَن وجد سبيلاً فيها فهو سُلطان الأرض وسليمان الزمان.

شعره

يقسم الشعر عند جلال الدِين الروميّ إلى نوعين:

إنسانيّ أخلاقيّ، ويتناول فيه المُثُل العُليا للحياة الإنسانيَّة والكون، وهو شعر تعليميّ يعتمد كثيراً على القصص والأمثال، ليمرّر من خلاله تعاليمه وآراءه التي يدعو إليها.

والنوع الآخَر وجدانيّ فلسفيّ. ويتناول فيه معاني الصوفيَّة، من وجد ونَفْس إنسانيَّة وأصلها الإلهيّ، وهو بذلك لا يمسّ الحياة المادّيَّة. بل يحلّق في سماء العالَم الروحيّ، متحدّثاً عن المحبّة الإلهيَّة، التي هي سعادة الإنسان الأبديَّة وكمال الخلود.

إنّ الروح التي ليس شعارها الحُبّ الحقيقيّ
من الخير ألاّ توجد، فليس وجودها سوى عار.
كُنْ ثملاً بالحُبّ، فإنّ الوجود كلّه محبّة.
وبدون التعاون مع الحُبّ فلا سبيل إلى الحبيب.
يقولون، ما الحُبّ؟ قلْ: هو ترك الإرادة.

التقى جلال الدِين الروميّ معلّمه شمس الدِين التبريزيّ عام 642ه‍ / 1244م. ولازمه وأصبح له مريداً. وشاءت الظروف أن يُقتل شمس الدِين التبريزيّ سنة 645 للهجرة. فتألّم جلال الدِين الروميّ كثيراً لرحيل صديقه ومعلّمه. فهتف بأشعار جادت بها عبقريّته. وقدّم هذه الأشعار في ديوان سمّاه، "ديوان شمس الدِين". ويقول عن رحيله:
مَن ذا الذي قال إنّ شمس الروح الخالدة قد ماتت!
ومَن الذي تجرّأ على القول بأنّ شمس الأمل قد تولّت!
إنّ هذا ليس إلاّ عدوّاً للشمس، وقف تحت سقف،
وعصب عينيه ثمّ صاح، ها هي الشمس تموت.

مصادر ثقافته

إنّ مصادر الفلسفة عند جلال الدِين الروميّ، كثيرة، كما هو الحال عند المتصوّفة كافّّة. فالأفلاطونيَّة المحدثة والفلسفة الهنديَّة حاضرتان في أكثر من موضع من مؤلّفاته. كذلك، هناك شبه كبير بين بعض آرائه وآراء المتصوّفة المسيحيّين. ومثله في ذلك، مثل الإمام الغزاليّ، الذي اقتبس بعض آيات من الكتاب المقدَّس، مبدّلاً بعض كلماتها من دون تغيير المعنى.

فمثلاً، يقول جلال الدِين الروميّ مخاطباً قلبه المتعلّق بالهيكل الجسميّ الزائل:
أيّها القلب! لمـاذا أنت أسير لهذا الهيكل الترابي الزائل!
كذلك تأثّر كثيراً بالشعر العربيّ، وخاصّةً أشعار المتنبيّ. فهناك أبيات شعريَّة وردت في مثنوي تكاد تكون ترجمة حرفيَّة لبعض أشعار المتنبي: صدّقوهم، هم مصابيح الدجى أكرموهم، هم مفاتيح الرضا

أمّا الموسيقا، فلها دَورها في شعر جلال الدِين الروميّ، وهو يعدّ أوّل من توسّع في إدخالها في مجالس الصوفيَّة. كما أنّه نظم ديوان مثنوي على أوزان عديدة، بلغت الخمسة والخمسين وزناً. أمّا الناي فقد كان له مكانة خاصّة عنده، ذلك لأنّ موسيقاه تتّصل بالعشق.
وهو مَن أدخل الموسيقا إلى الطريقة الصوفيَّة، وجعل لها مكاناً مرموقاً في محافل طريقته "المولويَّة" مخالفاً بذلك ما جرى عليه الآخَرون.

مؤلّفاته النثريَّة

1- المجالس السبعة، وهي المحاضرات التي ألقاها على طُلاّبه ومريديه.
2- الرسائل، وهي الرسائل التي كتبها إلى الأهل والأصدقاء. وبينها رسالة إلى فاطمة خاتون زوجة ابنه بهاء الدِين، وأُخرى إلى ابنه بهاء الدِين. وفي الرسالتين، يحاول حلّ الخلاف الذي نشب بين الزوجين.
3- فيه ما فيه، وهو مجموعة من المواعظ والمحاورات.

أعماله الشعريَّة

1- ديوان شمس تبريز، وهو قصائد غزليَّة حقّانيَّة، نظمها لمعلّمه شمس الدِين التبريزيّ، في بحور متنوّعة. وتحتوي على نحو ثلاثة وأربعين ألف بيت.
2- الرباعيّات، وعدد أبياتها (3318) ثلاثة آلاف وثلاثمئة وثمانية عشر بيتاً.
3- مثنوي، وهو أهمّ مصنّفاته الشعريَّة. وهو ملحمة شعريَّة في ستّة مجلّدات. مات ولم ينتهِ من تأليفها. وفيها مزج الأساطير والحكايات، قاصداً بذلك تفسير المذاهب الصوفيَّة.
ويذكر له بروكلمان كتابين آخَرين:
1- أوراد، كبير وصغير.
2- أدعية، باللغة العربيَّة، مع شرح باللغة التركيَّة، وهو شرح أوراد المُسمّى ب‍ِ "حقائق أذكار مولانا".

كتاب مثنوي

يتكوّن هذا الكتاب - كما ذكرنا أعلاه - من ستّة مجلّدات، تحتوي على (25632) بيتاً من الشعر، حسب طبعة نيكلسون. لكنّ صاحب "تذكرات الشعراء" يقول إنّ مثنوي يحتوي على (48000) بيت في المجلّدات.

ماذا تعني كلمة مثنوي؟ هو النظم المزدوج الذي يتّحد فيه شطرا البيت الواحد بقافية واحدة خاصّة بهذا البيت، وتتغيّر القافية في البيت الذي يليه، فتتحرّر القصيدة بذلك من القافية الواحدة. وأوّل مَن نظم الشعر في الفارسيَّة على هذه الطريقة هو الشاعر الصوفيّ سنائي.

ويقال إنّ حسام الدِين جلبي، تلميذ جلال الدِين الروميّ، كان وراء فكرة كتابه "مثنوي" ذلك أنّه طلب من أستاذه أن يقوم بنظم كتاب لأتباع طريقته يكون على غرار كتاب "حديقة الحقيقة" للشاعر سنائي، أو "منطق الطير" للشاعر فريد الدِين العطّار. فبدأ جلال الدِين الروميّ ينظم الشعر حوالى السنة 657ه‍/1262م. لكنّه توقّف عن الكتابة سنة 660ه‍ / 1265م. ليستأنفها بعد عامين.

تدور موضوعات مثنوي في مجالات متنوّعة، فلا نكاد نرى موضوعاً إلاّ وطرقه الروميّ في هذا الكتاب: الطبّ، الفلسفة، عِلم الكلام والفلك. حتّى إنّ لعبة الشطرنج وجدت طريقها إلى هذا المؤلّف العظيم. والقرآن وقصص الأنبياء حاضرة فيه إلى جانب الحديث والقصص الشعبيَّة. إنّه موسوعة كاملة ومتكاملة في شتّى المواضيع: إنّه أصولُ أصولِ الدِين، في كشف أسرار الوصول إلى اليقين. هو فقه الله الأكبر، وشرع الله الأزهر... اجتهدت في تطويل المنظوم المثنوي المشتمل على الغريب والنوادر، وغرر المقالات، ودرر الدلالات، وطريقة الزهّاد، وحديقة العبّاد، قصيرة المباني، كثيرة المعاني( )... هذا ما يقوله جلال الدِين الروميّ في مقدّمة كتابه.

وتجدر الإشارة إلى أنّه قد نُسب إلى جلال الدِين الروميّ جزء سابع من مثنوي. كشف عن ذلك أحد شرّاح مثنوي المشهورين، إسماعيل الأنقرويّ المولويّ (ت 1042ه‍ / 1632م)، الذي نسخ مثنوي المنسوخة سنة 814ه‍ / 1411م. وهي مكوّنة من سبعة أجزاء، وقد قام بشرحها كاملة بما في ذلك الجزء السابع، ثمّ تبيّن في ما بعد أنّ هذا الجزء السابع ليس لجلال الدِين الروميّ، ذلك أنّ الضعف البادي في الشعر الذي تضمّنه هذا الجزء، يؤكّد أنّ لا علاقة له بكتاب مثنوي ذي الأجزاء الستّة. ومن الممكن أن يكون نسّاخ مثنوي قد أضافوا هذا الجزء إلى النصّ الأصليّ، عبر القرون. هذا إلى أنّ إسماعيل الأنقرويّ المولويّ، قد وضع كتاباً خاصّاً جمع فيه الآيات القرآنيَّة والأحاديث النبويَّة ممّا ورد في كتاب مثنوي، إضافةً إلى أبيات الشعر العربيَّة وبعض الألفاظ التركيَّة الغامضة، وسمّاه "جامع الآيات".

شروح "مثنوي" بالفارسيَّة

تعدّدت شروح كتاب "مثنوي" باللغة الفارسيَّة التي وُضع فيها الكتاب. ولعلّ أقدم هذه الشروح ما قام به كمال الدِين حسين بن حسن الخوارزميّ الكبرويّ (840ه‍ / 1436م)، وسمّاه "كنوز الحقائق ورموز الدقائق".

وهناك شروح أُخرى، منها، شرح مولويّ محمّد رضا (1084ه‍ / 1673م). طُبع سنة 1877م في "لكنو" بالهند. وشرح عبد العلي محمّد بن نظام الدِين اللكنويّ، وقد طُبع في العامين 1876 و1877 في بومباي.

ترجمة وشروح بالتركيَّة

توجد شروح عديدة باللغة التركيَّة. ولعلّ أهمّها شرح محمّد نحيفي بن سليمان بن عبد الرحمن (1151ه‍ / 1738م). كذلك هناك ترجمة وشرح لعابدين باشا حاكم أنقرة. وثمّة شروح ذكرها حاجي خليفة.

مثنوي باللغة الألمانية

مع إطلالة القرن التاسع عشر الميلاديّ، بدأ الأورُبّيّون يوجّهون اهتمامهم لدراسة كتاب مثنوي. ففي عام 1849 ظهرت ترجمة ألمانيَّة لقسم من الجزء الأوّل، مع شروح للمعاني الصوفيَّة. أعدّها جورج روزن وقد تمّ طبعها في العام نَفْسه في مدينة بليبرغ.

مثنوي باللغة الإنكليزيَّة

أمّا سير جيمس ردهاوس، فقد قام بترجمة الجزء الأوّل من كتاب "مثنوي" إلى اللغة الإنكليزيَّة. ونُشر في لندن عام 1881. وفي عام 1887، نُشرت ترجمة أُخرى، وهي مختارات من "مثنوي" بأجزائه الستّة، بلغ عدد أبياتها 3500، أعدّها هوينفيلد. لكنّ أفضل ترجمة إلى الإنكليزيَّة، هي تلك التي قام بها نيكلسون، إذ نشر في لندن سنة 1931 قصصاً مختارة من "مثنوي"، وبعد وفاته تابع نهجه تلميذه آرثر جون آربري. فنشر ترجمة عِلميَّة دقيقة لبعض قصص "مثنوي". وقد صدرت بمجلّدين عامي 1961 و1963.

مثنوي باللغة الفرنسيَّة

اطّلعنا على ترجمة باللغة الفرنسيَّة، قام بها أحمد قدسي أرغوني وبيير مانير. وقد نُشرت في باريس عام 1988. وهي تحتوي على ترجمة لـ 150 قصيدة، أو قصّة من "مثنوي". وهناك ترجمة كاملة قامت بها إيفا مييروفيتش بالتعاون مع جمشيد مورتازاني، وقد تُرجم النصّ مباشرةً من اللغة الفارسيَّة. ووضع المترجمان شروحاً ضافية. ونُشر الكتاب في باريس عام 1990.

مثنوي باللغة العربيَّة

هناك ترجمات عديدة في اللغة العربيَّة، قام بها متخصّصون في اللغة أو في التصوّف. نذكر بعضاً من أهمّها:
- يوسف بن أحمد المولويّ، قام بأوّل شرح باللغة العربيَّة لـ "مثنوي" سنة 1872.
- عبد العزيز الجوهري، أديب عراقيّ، قام في الأربعينيّات من القرن الماضي بترجمة "مثنوي" إلى اللغة العربيَّة، لكن بدون شروح على النصّ.
- الدكتور عبد الوهاب عزّام، مصر 1946.
- الدكتور عبد السلام كفافي، بيروت 1966.
- الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، وهو آخِر من قام بترجمة "مثنوي". وترجمته كاملة للأجزاء الستّة، مع شروح كافية. وقد صدرت هذه الطبعة بالقاهرة في العامين 1996 و1997.

آخِر ما في "مثنوي"

يختم جلال الدِين الروميّ الجزء السادس من كتابه "مثنوي" بقوله: وإنّ ذلك الكلام في قلبي من تلك الميمنة، ذلك أنّه من القلب إلى القلب كوّة.