موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٩ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٨
الله في ذاته هبة لا تنضب ومجانية لا حدود لها

المطران بيير باتيستا :

يحتل الهيكل دورا هاما في المقطع الإنجيلي لهذا الأحد (مرقس ١٢: ٣٨- ٤٤). هناك يتواجد يسوع ليعلّم. في هذا المكان، التقى بجموع عديدة من الناس وحاورهم. وأحياناً تحوّل هذا الحوار إلى انتقاد لاذع.

نحن في نهاية الفصل الثاني عشر من إنجيل مرقس. في الفصل الثالث عشر نجد الخطاب الأخروي وتبدأ بعد ذلك أحداث آلام المسيح في الفصل الرابع عشر.

وعليه، فإن اللوحة التي يرسمها المقطع الإنجيلي اليوم هي لوحة ختامية. وهي مسك الختام في تعليم يسوع لنا. لهذا السبب نعتبر هذا المقطع غاية في الأهمية. نجد فيه صورتين متناقضتين.

في الصورة الأولى (مرقس ١٢: ٣٨- ٤٠) نجد شخصيات مليئة من ذاتها وتطلب لنفسها حيّزاً كبيراً لأنها تسعى إلى لفت الانتباه وإثارة الإعجاب وتعزيز مكانتها.

أما الشخصية الأخرى فهي أرملة فقيرة لا تشغل حيّزاً كبيراً، ولا تلفت انتباه أحد سوى يسوع (مرقس ١٢: ٤١- ٤٤).

كيف تختلف هاتان الشخصيتان؟

يمكن أن نجد مفتاح قراءة النص في مكان حدوث المشهد. إنه الهيكل، المكان الأمثل للقاء مع الله. هناك يصعد الإنسان لرؤيته.

في الحقيقة، لا يرى الكتبة أحداً لانشغالهم الشديد ورغبتهم في لفت الأنظار إليهم. كل ما يقومون به بل وأعمالهم الدينية لا تسمح لهم أن ينظروا إلى أبعد من أنفسهم. في إنجيل القديس مرقس، هم نقيض التلميذ المثالي.

في المقابل، لا ترى الأرملة سوى أمرا واحدا فقط. نظرتها إلى الله حقيقية وواقعية لدرجة أنها تعطيه كل ما تملك وكل حياتها.

تعبر الأرملة عن ذلك بحركة قوية تبدو غير منطقية لسببين على الأقل.

لماذا يُعطي المرء كل ما يملك ويبقى بدون لقمة العيش؟ هل من الممكن أن يطلب الله ذلك؟ ولماذا يتم ذلك في الهيكل ومن أجل الهيكل، طالما نقرأ بعد ذلك بآيتين نبوءة يسوع عن الهيكل الذي لن يبق فيه حجر على حجر (مرقس ١٣: ٢)؟

وبالتالي، إن أعطت هذه المرأة، الفقيرة أصلاً كل ما تملك، ألا تزداد فقراً؟ في الواقع لا. بإعطائها كل ما لديها تصبح ثرية، لأن المرء، إن أحبّ، وهب كل ما يملك للآخر، ولا يشعر في نفس لحظة العطاء بالفقر. على العكس تماماً، سيشعر بغنى العلاقة التي كوّنها بنفسه والتي تنعكس في الهبة التي قدّمها. إن ما نعطيه هو ما يجعلنا أثرياء.

إن فعلتها لا تنتهي ولا تزول. سيزول الهيكل وسيتم تدميره. إلا أن العلاقة، التي عبرت بها المرأة عن محبتها، ستبقى لأنها علاقة حقيقية. لا تكون العلاقة حقيقية إن لم نجازف بكل حياتنا وما نملكه، تماماً مثل هذه المرأة.

المظاهر هي فقط ما يبحث عنه الكتبة في علاقتهم مع الله. أما الأرملة فهي تريد إرضاء الله من خلال تقدمة كل ما تملك ودون الرغبة في الظهور.

هذا هو ببساطة منطق الإنجيل: يكسب حياته فقط من يفقدها. إنه منطق يعرّفنا عليه إنجيل القديس مرقس خطوة بعد خطوة. من الآن فصاعداً وعلى مسافة قصيرة من آلام المسيح، يرى يسوع تجسّد هذا المنطق في الأرملة الفقيرة.

كما وأن حضورها لا بل ومثالها يُعلنان حينونة الساعة ويدعوان يسوع لدخول سر الآلام بثقة، ذلك لأن جميع ما سيضحي به بمحبة سيتم استرجاعه بشكل كامل.

هذا هو نقيض منطق الكتبة. كل من يظن أنه يربح عن طريق إعجاب الناس به سينتهي في الدمار على غرار الهيكل، الذي انهدم ولم يعد ينفع.

في النهاية نتساءل: ماذا رأت هذه الأرملة لتقوم بهذا العمل؟

نستطيع القول أن هذه المرأة قد رأت ما هو جوهري في الله. رأت أن الله في ذاته هبة لا تنضب ومجانية لا حدود لها. لذلك فإن الطريقة الوحيدة للقائه هي تسليم أنفسنا إليه. إنها المقايضة الوحيدة المسموحة بها في الهيكل، لأنها تعُطي للهيكل معنى وجوده، إذ يكتمل هذه المعنى في الهيكل الجديد أي في جسد الرب، فادي الجميع.

تتقاطع النظرات في إنجيل اليوم: يحذّرنا يسوع (مرقس ١٢: ٣٨) من أولئك الذين يريدون لفت أنظارنا، ويريدنا بالمقابل النظر (مرقس ١٢: ٤١ و٤٣) إلى من لا يسعى إلا إلى نظرة الله لأن هؤلاء الناس هم المعلمون الحقيقيون الذين يعلموننا طريق الحياة.

كما ويجب أن نمتلك أعيناً جديدة نالت الشفاء على غرار عيني برطيماوس (مرقس ١٠: ٤٦- ٥٢)، وإلا فإن أعيننا المصابة بالأنانية معرضة لعدم رؤية وفهم منطق المحبة، الأمر الذي يؤدي إلى الاستخفاف به بحسب معيارنا البشري.